توصف العلاقات الدولية دائماً بأنها علاقات متعقدة ومتشابكة، فقد كان لتطور الحياة في كافة جوانبها وتواتر خطواتها باطراد مذهل في تسارعه من دون حدود لأبعاده وتأثيراته، أبلغ الأثر في ظهور علاقات التعاون والتعايش بين الدول، بغرض إنماء روابط التكامل الإنساني فيما بينها، بما يعود عليها وعلى المجتمع الدولي كله بالفائدة المرجوة. وقد كان لتشابك هذه العلاقات بين الدول انعكاساتها وآثارها السلبية، بسبب رغبة بعض الدول وتوجهها نحو تحقيق أهدافها ومصالحها على حساب غيرها من الدول الأخرى، خروجاً على أحكام ومبادئ القانون الدولي. ولهذا ظهرت بعض المبادئ في إطار العلاقات الدولية، التي يتم اللجوء إليها لخلق نوع من التكافؤ والتوازن بين الدول، في حال إذا ما وقع على إحداهما أي اعتداء أو تهديد – أياً كان شكله – من دولة أخرى. ومن بين هذه المبادئ مبدأ الرد بالمثل، ويعنيهذا المبدأ أن هناك عمل أو سلوك أو تصرف غير مشروع، يصدر بالمخالفة لأحكام ومبادئ القانون الدولي العام الراسخة، من دولة ضد أخرى، فتقوم الأخيرة بإجراء مضاد ينتهك قواعد القانون الدولي، في سبيل الضغط على الدولة المعتدية التي انتهكت القانون، لإرغامها على الخضوع والامتثال للقانون، والعدول عما اقترفته من أفعال وتصرفات غير مشروعة. وبالتالي يعطي هذا المبدأللدولة التي يقع عليها أيُّ اعتداء الحق فيأن تردَّ عليه بمثله، بهدف إجبار الطرف المعتدي على احترام القانون.وإذا كانت هذه الوسيلة في الأساس تعد وسيلة غير قانونية، إلا أنها تحولت إلى وسيلة مشروعة، يجيزها القانون في حالاتٍ استثنائية، لأنها تخدم غايات قانونية. ويأتي مصطلح الرد بالمثل على النقيض من مصطلح المقابلة بالمثل، حيث يعني الأخير قيام دولة ما بتصرف أو فعل رداً على فعل أو تصرف شبيه من دولة أخرى، بغية إرغامها على العدول عن موقفها، وهذا الفعل لا يؤدي إلى انتهاك وخرق أحكام وقواعد القانون الدولي، على النقيض من الرد بالمثل الذي ينتهك ويتجاوز أحكام القانون الدولي. ويرتكز مبدأ الرد بالمثل على فكرة المساواة في السيادة بين أشخاص القانون الدولي، الذي يكفل تمتع جميع الدولبحقوق وواجبات متساوية. فالدول جميعاً متساوية أمام القانون، وتُطبَّق عليها قواعد قانونية موحدة، وهذه المساواة القانونية تأتي كنتيجة طبيعية ومنطقية لسيادة كلّ دولة واستقلالها. وقد أشار معهد القانون الدولي إلى أن الرد بالمثل يتطلب ضرورة توافر ثلاثة شروط، أولهما: وجود مخالفة لقاعدة أو أكثر من قواعد القانون الدولي ترتكبها دولة إضراراً بدولة أخرى، أو بمجموعة من الدول. والثاني: عدم إزالة هذه المخالفة، أو عدم التعويض عنها. والثالث: ارتكاب فعل أو سلوك يمثل خروجاً على قواعد القانون الدولي، ترد به الدولة المتضررة على الدولة المخالفة أو المعتدية. وقد يكون اللجوء إلى مبدأ الرد بالمثل منطوياً على استخدام القوة المسلحة، وقد لا ينطوي على ذلك. وهناك العديد من الأمثلة التي تم بمقتضاها اللجوء إلى مبدأ الرد بالمثل، ومنها قيام الولاياتالمتحدةالأمريكية بحجز وتجميد الأصول والأرصدة الإيرانية الموجودة لديها، رداً على قيام إيران بحجز الرهائن الأمريكيين لمدة 444 فيما عرف بأزمة الرهائن الأمريكيين في سنة 1979م. ومن الأمثلة الحديثة في الواقع المعاصر، والتي يمكن بصددها تطبيق مبدأ الرد بالمثل، إصدار الولاياتالمتحدةالأمريكية لقانون جاستا، الذي سبق وأن تطرقنا إليه في المقال السابق، واستكمالاً لما سبق ذكره في هذا الخصوص، فقد صوت الكونجرس الأمريكي بمجلسيه الشيوخ والنواب مؤخراً بالموافقة على قانون جاستا، وبالتالي فقد أصبح هذا القانون نافذاً وسارياً، وبموجبه يحق للمواطنين الأمريكيين وغيرهم، رفع دعاوى وقضايا على دول ذات سيادة وإخضاعها للمحاكم الأمريكية، في سابقة خطيرة من نوعها تمثل انتهاكاً صارخاً لمبدأ المساواة في السيادة، ولمبدأ الحصانة القضائية للدول، الذي يحظر مثول الدول أمام محاكم الدول الأخرى. وانطلاقاً من مبدأ الرد بالمثل، فربما نرى قريباً قيام العديد من الدول التي ستتضرر من نفاذ وسريان قانون جاستا، بسن وتشريع قوانين، تستهدف إخضاع الولاياتالمتحدة لقضائها الوطني، من خلال تمكين مواطنيها من رفع دعاوى ضد الولاياتالمتحدة ومسؤوليها. وهناك بعض الأنباء تفيد بأن البرلمان الياباني يناقش في هذه الآونة مشروع قانون يسمح للمواطنين اليابانيين وغيرهم بمقاضاة الولاياتالمتحدة على جرائمها البربرية والوحشية التي ارتكبتها ضد اليابان، وفي مقدمتها إلقاء قنبلتي هيروشيما ونجازاكي، اللتان ترتب على إثرهما حدوث خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات. وهذا الخبر – إن تأكدت صحته مستقبلاً – فهو لن يكون قاصراً على اليابان وحدها، بل سيمهد الطريق لأي دولة تضررت من الولاياتالمتحدة في أن ترد عليها بالمثل. وبالتالي، فلو قامت الولاياتالمتحدة وفقاً لقانون جاستا، بالحجز والتنفيذ على أصول وودائع وأرصدة الدول الموجودة لديها، بزعم تورطها في دعم ومساندة الخلايا والمنظمات الإرهابية، فإنها يمكن أن تتعرض لذات المصير من قبل الدول التي ستسير على ذات الخطى، وتسن قوانين وفقاً للمبدأ المذكور، ومن ثم ستعرض الولاياتالمتحدة بعض مصالحها لمخاطر كبيرة، خاصة إذا علمنا أن الولاياتالمتحدة لها علاقات اقتصادية واستثمارات متشعبة في الكثير من دول العالم. ومن منظوري الخاص، أرى أن الدول التي يمكن أن تعامل الولاياتالمتحدة وفقاً لمبدأ الرد بالمثل في تلك الآونة، وتفعّل هذا المبدأ تفعّيلاً صحيحاً يخدم الغايات والأهداف التي يرمي إليها هذا المبدأ، هي الدول الكبرى المؤثرة، التي تمتلك مقومات القوة والقدرات المادية والمعنوية التي تمكّنها من مجابهة الولاياتالمتحدة نسبياً. أما الدول الصغرى أو الضعيفة، ففي حال إقدامها على مثل هذه الخطوة الخطيرة، فلا شك أنها ستتعرض للعقاب الأمريكي المفرط، الأمر الذي سيرتب عليه حدوث فوضى عارمة في العلاقات الدولية، وتعبيد الطريق بصورة أكثر فاعلية من ذي قبل لكي تفرض القوة قانونها ونهجها الخاص.