في اليوم الثالث للهدنة الجديدة في سوريا، التي جرى الاتفاق عليها بين وزير خارجية روسيا سيرجي لافروف ونظيره الأمريكي جون كيري في جنيف مؤخرًا، خرج الكرملين على لسان ناطقه الصحفي دميتري بيسكوف ليصفها بالهدنة الهشّة. ومن السياق العام لجميع الهدن التي وقعتها كل من موسكووواشنطن في سوريا، كهدنة شهر فبراير الماضي، فإن عوامل نكوثها كثيرة، وغالبًا ما كانت تتعلق بعدم قدرة كل من القطبيين الدوليين، خاصة الأمريكي، على ضبط الخروقات المسلحة التابعة للمعارضة السورية التي يدعمها. إشكاليات الهدنة الجديدة يبدو أن طريق الكاستيلو ما زال يشكل عقدة استراتيجية لواشنطن، خاصة أن هذا الطريق الحيوي كان في يد المعارضة السورية التي تدعمها، قبل أن يتمكن الجيش العربي السوري والمدعوم روسيًّا من استعادته منتصف يوليو الماضي، الأمر الذي شكل صدمة كبيرة لأمريكا لا يبدو أنها قادرة على استيعابها حتى الآن، فواشنطن تحاول أن تستثمر أي فرصة تمكنها من استعادته مجددًا أو إيجاد أي طريقة لدعم معارضي النظام السوري بالداخل الحلبي بعد إطباق الجيش السوري على جميع منافذ حلب. حتى هذه اللحظة ما زالت قوافل الإغاثة والمتمثلة في عشرين شاحنة عالقة على الحدود السورية التركية لليوم الرابع على التوالي تنتظر تصاريح من الحكومة السورية للدخول إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة داخل حلب، ومع ذلك لا تكمن المشكلة الحقيقية عند الحكومة السورية، فالجيش السوري بدأ بالفعل تطبيق انسحابه من طريق الكاستيلو المؤدي إلى حلب كجزء من الاتفاق الروسي الأمريكي لوقف إطلاق النار في سوريا، فالاتفاق ينص على تحويل طريق الكاستيلو إلى منطقة خالية من السلاح، حيث انسحبت القوات النظامية من نقطة الكاستيلو ونقطتين أخريين، لتسلم بذلك المعبر المتفق عليه لإدخال مساعدات إلى أحياء حلب الشرقية للحليف الروسي، الأمر الذي أكده أمس الخميس مسؤول مركز تنسيق العمليات في سوريا الجنرال فلاديمير سافتشنكو، خلال مؤتمر صحفي للجيش الروسي قائلًا "طبقًا لالتزاماتها، بدأت القوات السورية في سحب عتادها العسكري وجنودها تدريجيًّا"، ولكنه أضاف أن "فصائل المعارضة السورية لم تبدأ في المقابل بسحب مقاتليها". وقال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية جوش إرنست "إنه ليست لديه معلومات استخباراتية أو حقائق تؤكد انسحاب الجيش السوري"، الأمر الذي دفع الروس لاتهام الولاياتالمتحدة بعدم الوفاء بالتزاماتها الواردة في اتفاق الهدنة. ولا تقتصر مشكلة الهدنة على انسحاب الأطراف السورية المتصارعة من طريق الكاستيلو، فمشكلة مهمة أخرى طفت على سطح الخلاف الروسي الأمريكي، ألا وهي تفتيش شاحنات المساعدات، فالحكومة السورية تصر على تفتيش القوافل؛ خوفًا من وجود أسلحة أو متفجرات فيها، فيما يمانع الجانب الأممي هذا المطلب السيادي، حيث قال المبعوث الأممي لسوريا استيفان دي ميستورا "إن المساعدات الموجهة إلى أحياء شرق حلب لا تحتاج إلى تصاريح عبور من الحكومة السورية؛ لأنها تتمتع ب "وضع خاص" بموجب الاتفاق الروسي الأمريكي، موضحًا أن الاتفاق نص على عدم التعرض للقوافل الإنسانية أو تفتيشها بعد ختمها. وانضمت روسيا إلى الموقف السوري بضرورة تفتيش القوافل، فالمندوب الروسي في المجموعة الدولية ألكسندر زورين أبلغ المجتمعين أن موسكو تصر على تفتيش القوافل "إن لم يكن عن طريق القوات الروسية أو الجيش السوري؛ بسبب حساسية الموقف بالنسبة إلى المجموعات المسلحة، فعن طريق طرف ثالث موثوق به لدى دمشقوموسكو". ويبدو أن مماطلة الولاياتالمتحدة تخفي وراءها الكثير من الشكوك، فالاتفاق الذي أبرمته مع موسكو حول وقف الأعمال القتالية في سوريا يبدو أنه يميل لصالح موسكو، ويعكس ذلك وجود خلاف بين وزارتي الخارجية والدفاع الأمريكيتين، حيث أشارت التقارير إلى أن جون كيري يريد تتويج عمله في منصب وزير الخارجية بإنجاز هام كتحقيق السلام، في حين يطمح أشتون كارتر الذي يأمل أن يظل في موقعه كوزير للدفاع في حال فوز هيلاري كلينتون بانتخابات الرئاسة الأمريكية، يطمح لمواصلة الكفاح ضد روسيا في سوريا. كما أن رغبة واشنطن في إحاطة الاتفاق بالسرية على عكس موسكو يشير بأن واشنطن تبيت لأمر ما، حيث قال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية مارك تونر، اليوم الجمعة، حول الكشف عن تفاصيل الاتفاق الروسي الأمريكي، ومطالبات دول مثل فرنسالواشنطن بإطلاع حلفائها على تفاصيل الاتفاق، "إن هناك بعض التفاصيل التنفيذية التي لها حساسية، ونحن نعتقد أنه لم يكن في مصلحة الاتفاق أو في مصلحة أحد الكشف عنها". في المقابل لم يُبدِ الطرف الروسي أي تحفظ على نشر مضمون الاتفاق، حيث صرح لافروف بأنه لا يجد مبررًا لعدم الإفراج عن تفاصيل الاتفاق علنًا، مشيرًا إلى أن إبقاء الاتفاق سريًّا كان بناء على طلب واشنطن، وطالب لافروف ليس فقط بإعلان الاتفاق المكون من خمسة أجزاء، بل بتقديمه إلى مجلس الأمن وإصدار قرار جديد لمجلس الأمن حوله. وينص الاتفاق الروسي الأمريكي، ووفقًا لمسؤولين أمريكيين، على وقف الأعمال العدائية، وإيصال المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة في سوريا، بصفة خاصة حلب، والالتزام بالهدنة لمدة سبعة أيام، وإقامة مركز تنفيذ وتنسيق عسكري مشترك لاستهداف داعش وجبهة النصرة والقاعدة. ويرى مراقبون أن الولاياتالمتحدة تناور روسيا للتملص من هذا الاتفاق، أو على الأقل لجعل باب العودة عنه مواربًا، خاصة أنه في حال صمود الهدنة ستعلن موسكووواشنطن عن إنشاء مركز تنفيذ مشترك، من المفترض أن يبدأ العمل يوم 21 سبتمبر الجاري، لتبادل المعلومات الاستخباراتية وتحديد الأراضي التي يسيطر عليها مسلحو القاعدة أو داعش أو النصرة، والأماكن التي تسيطر عليها جماعات المعارضة، ووضع ترسيم أكثر شمولًا لهذه المناطق، بعد تأسيس المركز المشترك، وهو الأمر الذي لا تريده واشنطن؛ نظرًا لصعوبة الفصل بين المعارضة المعتدلة والإرهابية، وبدأ ذلك واضحًا في تصريحات وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر، حيث قالت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية إن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) قبلت على مضض اتفاق الهدنة في سوريا في ظل انعدام شديد للثقة في روسيا. وقال الجنرال جوزيف فوتيل، رئيس القوات المركزية الأمريكية، إن هناك عدم ثقة في الروس، وأهدافهم ليست واضحة لنا، فهم يقولون شيئًا، ولا نراهم بالضرورة يسعون له. وتحججت وزارة الدفاع الأمريكي في صعوبة التعاون مع موسكو، بأن التعاون الاستخباراتي مع روسيا قد يعطيها معلومات مجانية عما تسميها واشنطن بالمعارضة المعتدلة، كما أن عدم استخدام روسيا للقنابل الذكية في سوريا قد يضر بالجانب الأمريكي في حال استهداف روسيا تجمعات للنصرة أو داعش متاخمة للمعارضة السورية، بالإضافة إلى أن التنسيق الأمريكي مع روسيا يحتاج إلى قانون استثنائي من واشنطن التي تحظر التعاون العسكري مع موسكو.