دفقة شعورية جديدة انفلتت من وقدة نفسه، جنح فيها أديبنا الحالم إلى التداعي الحر وتفسير الرمز بالرمز، ساندا للمتلقي بعض مهامه السردية، حتى يدفعه إلى اكتشاف دواخل نفسه ودقائق أمره على حقائقها النفسية، أو هي سلم إطلالة على الحواس لنرى ما تثيره الحياة اليومية من انفعالات وجدانية في نفس أديبنا، عبر إعادة تمثيل الحالات المختلفة التي يشهدها محفوظ في حياته اليومية في بناء جمالي محكم. هكذا كانت «الأحلام الأخيرة» من «أحلام فترة النقاهة» لنجيب محفوظ، بمثابة بعث جديد لنجيب محفوظ، ليبقى روحًا بلا جثمان، يجدل الحرف تلو الآخر ويغزل بها عقدًا فريدًا يرصع به جِيْدَ العربية وآدابها، وينسج منها نسقًا متسقًا من جميل السرد وبديع الحكي، بلون "محفوظي" بكر يتنزل علينا من سماوات وحيه. بعد رحيله بنحو عقد من الزمان، عاد نجيب محفوظ من جديد ليعزز حضوره الكامل على قمة السرد، بجزء جديد من «أحلام فترة النقاهة» يضم 297 حلمًا جديدًا، ترسخ خلوده الأدبي. مجموعة الأحلام الأخيرة التي صدرت عن دار الشروق في القاهرة العام الماضي، تحت عنوان «أحلام فترة النقاهة: الأحلام الأخيرة»، متممة ل«أحلام فترة النقاهة» للروائي الفذ نجيب محفوظ، الصادرة عن الدار نفسها في 2004، تجنح في بنائها اللفظي إلى تجويع اللفظ وإشباع المعنى، أو تقليص السرد ومط الدلالة، حيث خلت تمامًا مجموعة تلك الأحلام من المشهدية أو أي خلفية وصفية، على الرغم مما تكشف عنه من حياة أديبنا. وربما يمنحنا نجيب محفوظ عبر هذه الأحلام الأخيرة نافذة جديدة وفريدة وإطلالة مديدة ومفيدة على جانب مهم من حياته الشخصية وسيرته الذاتية ودواخل نفسه وطويته وآرائه المبعثرة في وجدانه، فيستوحي من والدته «الست أم إبراهيم» أو «فاطمة» 22 حلمًا لتكون بطلة الأحلام الأخيرة، ولا تنازعها الصدارة سوى عاطفة الحب لديه، فيتناول تلك العاطفة من مختلف جوانبها ب18 حلمًا، تحتل منها المحبوبة التي يرمز لها ب«ب» دائمًا 14 حلمًا، بينما يتبلور شعوره الوطني وإعجابه الجم بسعد زغلول في 8 أحلام. ولم يفت محفوظ في مجموعة أحلامه أن يتطلع إلى المستقبل برصد الاحتمالات وطرح التنبؤات؛ فيتوقع أزمات نهر النيل وخلافات عديدة، كما الناشب حاليًا جراء سد النهضة، الذي تقيمه إثيوبيا، إذ يقول في الحلم 426: رأيتني من المقربين من حاكم الجنوب في مصر، وكان حديثه يدور حول الجماعات المتناحرة على شاطئ النيل، ويومًا ما قال لي: إن النيل جاءه في المنام وقال له إنه يعهد إليه بتوحيد الجماعات المتناحرة في جماعة واحدة متعاونة، وأن يكون مَلِكًا عليها، يقوم بتوزيع المياه بينها بالعدل. وهكذا يتمادى نجيب محفوظ في سرد أحلامه بهذا الأسلوب السهل المنساب الذي يسيري في خفة وأريحية، وتقوم هذه الأحلام على محورين أساسيين من التكثيف، الأول دلالي، ويتضح من خلال الرمزية والإشارة والتلميح والفلسفة، وكلها إيحاءات قد تكون حمالة أوجه، لما تحويه الأحلام من ألغاز وأحاجٍ، كما في الحلم 396، الذي يذكر فيه استفحال الفساد حتى بلغ العنان، فيقول: سمعت صوتًا آتيًا من الغيب، يقول إنهم في العالم الآخر بدأوا يشمون رائحة كريهة صادرة من عالمنا؛ فنظر مستطلعًا فوجد السبب في الفساد المستفحل فسألته: وماذا ستفعل؟ فقال: نحن نبدأ بالوعظ والإرشاد وإن لم يُجْدِ ذلك عمدنا كارهين إلى وسائل أخرى. أما المحور الثاني، فيتلخص في التكثيف البنائي، فتعتري الأحلام مسحة جذابة يتضح من خلالها أنه كلما ضاقت العبارة في آلية سرد هذه الأحلام اتسعت الرؤية ولا شك، أو ربما اتبع نجيب محفوظ تلك الآلية الوافدة على أسلوبه، اعتبارًا للطريقة التي دونت بها هذه الأحلام، حيث كان نجيب محفوظ يرويها على سكرتيره الحاج صابر قبل وفاته، ولم يكشف عنها لأحد، حتى عثر ابنتاه فاطمة وأم كلثوم عليها في شهر مايو الماضي، أثناء ترتيبهما غرفة أبيهما، عقب وفاة أمهما السيدة عطية الله، التي رحلت عن عالمنا نهاية العام الماضي. وتظل رواية أولاد حارتنا لكاتبنا الفذ إشكالية كبرى وصداعًا في رأسه، فبسببه لم يكتب خط يده من هذه الأحلام سوى أول 146 حلمًا، أو بقية الأحلام فصار يمليها على سكرتيره الحاج صابر، اللهم إلَّا أول كلمتين في بداية كل حلم، بسبب محاولة الاغتيال التي تعرض لها من قِبَل وانتهت بإصابته في يده، ينتهز محفوظ الفرصة لينفي عن روايته أي تهمة إلحاد، ويبرئها المزاعم والادعاءات التي حيكت ضدها، على لسان الرئيس نفسه، فيقول في الحلم رقم 395: وجدتني في حفل لتكريم رموز الثقافة والعلم، ووقف الرئيس وتحدث عن «أولاد حارتنا» فنفى عنها أي شبهة إلحاد، ونوه عما فيها من تسامح واستنارة. ولا يغفل أديبنا عن ذكر زعيم الأمة «سعد غلول» وارتباطه الوثيق به، وفي الحلم 298 يذكره كصمام أمان، يلتمس منه محفوظ الحماية ضد كل ما يتهدده من مخاوف، فيقول: رأيتني أسير في الظلام وشبح يتحرك هنا وآخر هناك، فامتلأت رعبًا ولجأت إلى تمثال سعد زغلول، فوثب الزعيم إلى الأرض، وأيقظ الأسد الذي راح يزأر، فإذا بالأشباح تختفي، وإذا بالطمأنينة ترجع إلى صدري، فشكرت الزعيم العظيم وعبرت الجسر في سلام. ويوغل محفوظ في رمزيته أكثر، تلك التي بلورت الجانب السياسي وسير الزعماء في بعض أحلامه، فكما يزود عنه سعد زغلول ويحميه، فعبر التمثال أيضًا يستدعي محفوظ الزعيم جمال عبد الناصر مدافعًا عن الفقراء وحاميًا لحقوقهم فيقول في الحلم 341: رأيتني عند قاعدة تمثال عالٍ للزعيم جمال عبد الناصر، وقد أجروا مسابقة لاختيار اسم له فاشتركت فيها، وكان الاسم الذي اقترحته «نصير الفقراء». ولا يكف محفوظ عن التداعي الحر في أحلامه، فتظهر حبيبته كظلال تروح وتجيء في أغلب الأحلام، فمرة هو مستنيم إليها، ومرة حائر غير قانع بختام ولا هانئ بوئام، وأخرى مستغرق معها في سعادة ووصال، وأخرى يكتشف أنها كانت تحبه وهو يتمنع عنها، وأنها كم انتظرت منه مكاشفتها بما يضمره من حب وإعجاب، لكنه لا يفعل، فما بين المحبوبة «ب» التي يذكرها في 14 حلمًا وحدها، والمعبودة «ع» يظل محفوظ حائرًا في هواه. ويمر محفوظ في أحلامه على جوانب عدة، حتى يستخف به الطرب فيستدعي سيدة الغناء العربي كوكب الشرق أم كلثوم وأيضًا شيخ الملحنين الشيخ زكريا أحمد، فيقول في الحلم رقم 358: وجدتني في حفلة لأم كلثوم بصحبة الشيخ زكريا أحمد، وقد بلغ الطرب منتهاه عندما غنت «وتميل عليه وتقول له ليه طاوعتني»، وعند انتهاء الحفلة خرجت مع الشيخ زكريا نسير في شوارع القاهرة الفاطمية «وتميل عليه وتقول له ليه..» حتى وصلنا إلى حارة بيت القاضي، حيث كان ينتظرنا طاجن كفتة وصينية بسبوسة. وهذا الدور المشار إليه في الحلم السالف وتغنت به أم كلثوم، دور «إمتى الهوى ييجي سوا» أحد أعظم الأدوار التي غنتها أم كلثوم، ولم تكن قيمته لدى الشيخ زكريا أحمد مقصورة على أنه من تلحينه فقط، بلى، فقد بلغ اهتمام الشيخ زكريا بهذا الدور أن انخرط في سلك الكورس خلف أم كلثوم ليردد المذهب معهم. ربما سكب محفوظ في أحلامه الجديدة سر العمر، أو بعض أسرار العمر، فما بين انتصارات وانتكاسات، وصبوات وكبوات، ورتابة واضطرابات، وسكون وثبات تجد أحلام نجيب محفوظ ممهورة بدقات قلبه ورجفات وجدانه بصدق وشفافية، فيشير في أحلامه الأخيرة إلى غيبوبة الحب الأول، ومن ثم إلى المظاهرات والشعر والغناء وهتافات الحرية، ودماء الشهداء، ثم لا يلبس أن يذكر الحرافيش، لا سيما في الحلم 387 الذي يقول: وجدتني مع بعض الحرافيش في مسكن المرحوم الشاعر «ص» ومعه المرحومة «س» فتصافحنا بحرارة وسألته: هل أنت تؤلف لها دراما شعرية؟ فقال: إن الذي يجمعني بها الآن الانتحار الذي ارتكبناه ضيقًا بالحياة، وأخذنا نتسامر حتى الهزيع الأخير من الليل، وغادرنا المكسن، أما الشاعر والفنانة فسارا في الشارع الطويل الخالي ونحن في الناحية المضادة والحزن يملأ جوانحنا. ومن خلال سياق الحلم نفهم أن «ص» إنما رمز للشاعر صلاح جاهين، و«س» ترمز للفنانة سعاد حسني، وربما المقصود بالدراما الشعرية هنا فيلم «خلي بالك من زوزو» الذي كتبه جاهين لسعاد حسني وأخرجه حسن الإمام. وعلى الضفة الأخرى من هذه الأحلام، يربت نجيب محفوظ على كتف الأدب بحنو وحفة، ويتركنا مع أحلامه ليقف على القرب منا، فيبدو كظلال تروح وتجيء، مرة يومض بفتنة حرفه البراق وأخرى بسحر إبداعه الألاق، وبين هذا وذاك، تنحدر على صفحات وجوهنا ابتسامة رثاء.