جاء رد فعل القوى الإقليمية والدولية على التدخل التركي العسكري في شمال سوريا مفاجئاً أكثر من الفعل نفسه؛ فما بين موافقة روسية وإيرانية وصمت من دمشق لم يكسره سوى التنديد الإعلامي بين الآن والأخر، وبين تخوف أميركي من حجم ومدى وأفق العملية العسكرية التركية، وقلق سعودي حيال ما أبدته تركيا من تفاهمات مع كل من موسكووطهران وترجمة ذلك بأنه انتهاء للتحالف بين الرياضوأنقرة الذي بدأ من العام الماضي، وكان محوره وداعيه الأول هو الأزمة السورية والتعاون المشترك بين البلدين . وعلى سرعة تطور الوضع الميداني في الشمال السوري من «الحسكة» وحتى «حلب» وتغيره المستمر والمتقلب في الفترة الأخيرة، فإن التدخل التركي يعد المتغير الرئيسي في الميدان الشمالي السوري، فتركيا التي تحظى فيما يبدو بغطاء سياسي إقليمي ودولي لعمليتها في سوريا تعمل على إعادة التوازن لصالح فصائل مسلحة بعينها تعمل وفق أولوية إبعاد الميليشيات الكردية بتنويعاتها عن الخط الحدودي الفاصل بين البلدين، بما في ذلك الميلشيات المدعومة من واشنطن ومن عواصم أوربية وازنة مثل فرنسا وألمانيا، وهي دول بجانب تسليحها للمقاتلين الأكراد وتدريبهم لهم عناصر من قوات خاصة عاملة في المناطق الكردية، التي اقتربت منها القوات التركية وعلى رأسها مدينة «منبج» التي استولى عليها عناصر «قوات سوريا الديمقراطية» من عناصر «داعش» قبل شهر تقريباً. لتأتي صدامات اليوميين الماضيين بين عناصر الميلشيات الكردية المختلفة والقوات التركية وتابعيها من الفصائل المسلحة لتجعل البيت الأبيض يخرج ببيان اليوم يصف إجراءات الجيش التركي ضد "جماعات المعارضة السورية غير مقبولة!"، وذلك قبل أيام من لقاء مرتقب بين أردوغان وأوباما على هامش «قمة العشرين» الأحد المقبل. وإزاء هذه الصورة العشوائية التي يتبدل فيها الحليف والخصم كل عدة ساعات في شمال سوريا، من البديهي أن يتم رصد وتحليل أبعاد المتغير الرئيسي، وهو التدخل التركي العسكري في شمال سوريا، ودوافعه وأهداف وتشابك الاثنين لتشكيل إستراتيجية تركيا الجديدة في سوريا ومدى توافقها واختلافها مع كافة أطراف الأزمة السورية، كذلك ارتباطها بشكل العلاقات الخارجية لأنقرة مع القوى الإقليمية والدولية ومدى ثبات هذه الإستراتيجية مستقبلاً خاصة في مرحلة تسوية الأزمة السورية التي تلوح في الأفق، بالإضافة إلى مدى ارتباط هذا الإجراء التركي بعوامل وأهداف داخلية في وقت عصيب في الداخل التركي توّج بمحاولة الانقلاب الفاشل والتغيرات التي حدثت في بنية الدولة التركية ونخبتها السياسية وعلاقة كل هذا بمستقبل حكم «العدالة والتنمية» المتمثل في تطبيق تحويل نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي. وفيما يلي رصد هذه الأهداف الخاصة بالتدخل التركي في سوريا على ثلاث محاور: أهداف داخلية ثقة الجيش: لخصت صحيفة «جمهوريت» التركية في تقرير لها اليوم عن فوائد العملية العسكرية التركية بالنسبة للجيش التركي في عدة محاور أبرزها استعادة الجيش لثقته ومعنوياته بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو الماضي، كذا إيضاح أن تركيا تستطيع القيام بتحقيق مصالحها عسكرياً بعيداً عن حلف «الناتو» وفي ميدان ملتهب وحساس مثل الميدان السوري. وبالإضافة لما ذكرته الصحيفة فإن من الواضح أن أنقرة لم يغب عنها الخيار العسكري طيلة السنوات الماضية من عمر الأزمة السورية، ولكن كون أن السنة الماضية شهدت تطورات دراماتيكية أدت إلى انزواء وتراجع الجماعات التي كانت تؤمن الحد الأدنى من المصالح التركية في سوريا، وهي المنطقة العازلة، سواء كان تراجع أمام قوات النظام السوري وحلفائه، أو قوات الأكراد المدعومة من واشنطن ودول أوربية، وهو ما استدعى ضرورة التدخل المباشر لتأمين حاجة طالما ماطلت فيها الولاياتالمتحدة، فكان التدخل بمشاورة موسكو ووفق تفاهم مشترك معها تدعمه التقاطع مع المصلحة الإيرانية-السورية التي سيضرها نشأة كيان كردي مدعوم أميركياً في وتوابع ذلك الأمنية والسياسية في داخل كل إيرانوتركيا وكذلك العراق؛ وبالإضافة إلى هذا فإن القرار التركي بالتدخل العسكري في سوريا يمثل اختباراً للقيادات العسكرية التركية الجديدة التي تغير هرمها القيادي بعد الانقلاب الفاشل، ومن ثم فإن الأولوية المطلقة الأن للجيش التركي هو إنجاز ما طلبته القيادة السياسية ووافق عليه البرلمان التركي واُمر الجيش بتنفيذه، وهو ما يعني استعادة الثقة في الجيش وقياداته ليس على المستوى السياسي فقط، ولكن على المستوى الشعبي خاصة بعد الصورة الذهنية السلبية عنه والتي وضحت في تعامل الأتراك مع العسكريين المسئولين عن الانقلاب الفاشل. تصدير الأزمة للخارج: ليس غريباً على السياسة التركية أن تقوم بتصدير مشاكلها السياسية الداخلية للخارج عن طريق إشعال صراع عسكري يوحد صفوف الأتراك وأحزابهم، ومؤخراً لم يكن هناك أفضل من الأكراد وتحديداً «حزب العمال الكردستاني» ليشن الجيش التركي ضدهم عمليات عسكرية في وقت أزمة داخلية، مثلما حدث في عمليات عسكرية للجيش التركي أعوام 2006 و2007 و2008، والأخيرة امتد مسرحها إلى شمال العراق، هي عمليات أتت في سياق صراع ما تبقى من نفوذ للمؤسسة العسكرية التركية -بوصفها حامية للعلمانية القومية للدولة- مع «العدالة والتنمية» الذي وجه الجيش إلى معركة إن لم تشغله وتقوض تدخله في السياسة الداخلية فإنها بالحد الأدنى سيتم نسبّ نجاحها إلى القيادة السياسية ممثلة في شخص أردوغان، وهو ما حدث بتفاوت إبان هذه الفترة، وكذا يأتي كفائدة جانبية هذه الأيام، فأولاً لا يستطيع أحد في الداخل التركي أن يُعارض هذه العملية وخاصة من أكراد تركيا، وإلا سيتم وصمهم بالتعاون مع الإرهاب الممثل في «العمال الكردستاني» وتنظيم «داعش» الذي بات مؤخراً على عداء مع أنقرة بعد التضييق على تحركه وإمداداته منذ أواخر العام الماضي كذا التضييق على تواجد مؤيديه داخل تركيا. تقويض المعارضة والمعارضة الكردية خاصة: تنتظر أحزاب المعارضة التركية على اختلاف مواقفها وبرامجها حصد ثمار وقوفها ضد الانقلاب الشهر الماضي، وحصد مكاسب انتخابية في أي استفتاء أو انتخابات قادمة على حساب الحزب الحاكم الذي تراجع حسب إحصائيات انتخابات العام الماضي وعانى من خلل داخلي كانت ذروته في أزمة إقالة رئيس الوزراء السابق أحمد داوّد أوغلو، وبالتالي فإن هذه العملية ضمن فوائدها الداخلية ليس فقط تقويض المعارضة ولكن شد عود الحزب الحاكم الذي انتعش بعد محاولة الانقلاب وفرض نفسه شعبياً وإعلامياً بما يناسب الإجراءات الاستثنائية التي حدثت بعد 15 يوليو. والأهم من السابق هو تقويض المعارضة الكردية الممثلة في عدة أحزاب على رأسها وأقواها حزب «حرية الشعوب» الكردي، الذي حقق نجاحات في الانتخابات الماضية، ونجح نوابه في انتزاع مكاسب تتعلق بحقوق الأكراد الثقافية والتعليم وغيرها، وبالتالي فإن معارضة هذا الحزب –الذي عانى مؤسسيه من حلْ أحزابهم أكثر من مره- تعني إجهاضه سياسياً في الداخل التركي، وإن لم يعترض وتماهى مع الحملة العسكرية التركية، فأنه سيخسر شعبية كبيرة على صعيد جمهوره الكردي في تركيا، كون أن الحملة العسكرية تستهدف أيضاً "أكراد" سوريا. أهداف خارجية فرض أوراق ضغط على واشنطن: حيث تتميز السياسة الخارجية التركية بخلق أوراق ضغط حال انعدامها؛ فبعد تراجع طيلة العامين الماضيين في علاقة تركيابالولاياتالمتحدة واستطاعة الأخيرة حصر الأولى في اختيارات الأمر الواقع سواء فيما يتعلق بالتحالف الجوي ضد «داعش» أو مسألة المنطقة العازلة وتحفظ واشنطن عليها حتى الأن، أستطاع أردوغان أن يحلحل الجمود بينه وبين إدارة أوباما بعد التحركات السياسية التركية في الأسابيع الأخيرة تجاه روسياوإيران والتي من ضمن مفاعيلها توفير الضوء الأخضر لأنقرة في عمليتها العسكرية في تركيا، وهو الأمر الذي لن يكون بعده من الصعب أن تحرك واشنطن المياه الراكدة مع أنقرة، خاصة وأن الأولى أصبحت مرادف لدعم الانقلاب في الداخل التركي وإيواء المسئول عنه، فتح الله كولن، وربما لم يفت الأوان لعودة معادلة التعاون المشترك بينهم ضد كل من داعش والعمال الكردستاني، حيث حاول أردوغان أن يساوي ما بين الاثنين عشية تدشين التحالف الدولي بقيادة واشنطن، ولكن الأخيرة لم تكن لتهتم سوى بتوفير قاعدة أنجرليك الجوية. تطوير العلاقات مع روسياوإيران: على أساس المصالح المشتركة والتعهد بعدم المساس بالجيش السوري، والتأكيد عملياً على أنها معركة ضد طرفين هما «داعش» والأكراد، والأولى عدو مشترك والثانية عدو محتمل لطهرانولروسيا خاصة بعد الدعم الغربي والأميركي الذي وفر موطئ قدم عسكري لواشنطن في شمال سوريا، وهو ما يضرب أهداف كل من طهرانوموسكو الإستراتيجية في سوريا والتي من أجلها تدخلوا بقوة في سوريا منذ بدء الأزمة وحتى الأن. تحصيل استحقاق في أي تسوية قادمة: فغني عن الذكر أن أي تسوية سياسية قادمة بخصوص سوريا لابد أن يمتلك أطرافها على مائدة التفاوض أوراق قوة، ونظراً للانحدار الذي عانت منه تركيا –وخلفها السعودية- على المستوى الميداني فإنه ولابد من وجود حد أدنى للمطالبة به على مائدة المفاوضات وهو بالنسبة للجانب التركي يتمثل في المنطقة العازلة التي تطالب بها أنقرة منذ أكثر من عام، والتي بدأت في تنفيذها عملياً برضا كل من طهرانوموسكو وربما دمشق، حيث أن ذلك يحقق مصالح هذه الأطراف في إجهاض أي تواجد كردي مدعوم أميركياً، وأيضاً يضمن تنازل تركي عن مسألة رحيل النظام السوري –وهو ما حدث بالفعل- وبالتالي قد يتحول موقع تركيا على مائدة المفاوضات المستقبلية من موقع الخصم إلى موقع المتعاون بحيثيات وتحفظات ليس من ضمنها معاداة دمشق وحلفائها. أهداف إستراتيجية والأهم بين المحاور الثلاث هو الهدف الاستراتيجي المتشابك مع المصلحة الجيوسياسية والأمن القومي التركي. وهنا تأتي مسالة فرض المنطقة العازلة في المقام الأول، فلا انتظار لموافقة أميركية تشترط وجود كردي على الحدود، وهو ما حدث بعد التفاهم مع روسياوطهران؛ فالآن لا مانع لدى الطرفين بأن تقوم تركيا بفرض المنطقة العازلة عسكرياً طالما لن توجه أنقرة نيرانها إلى الجيش السوري أو حلفائه الميدانيين، وهو ما يعني أن هناك حدود للعملية العسكرية التركية ربما تمتد من «جرابلس» وحتى حدود «حلب»، أي تقويض منطقة الإدارة الذاتية «روج آفا» الكردية وزحزحة الوجود الكردي عن خط الحدود مسافة كيلومترات يحل محلهم قوات تركية وفصائل مسلحة محسوبة عليها، وهذا الأمر متروك بالطبع لمدى تحدي واستجابة الجيش التركي ميدانياً أمام الميلشيات الكردية المختلفة. وجدير بالذكر أن معارك أمس الأول بين الطرفين خلفت إعطاب وتدمير آليات تركية بالإضافة لمقتل 8 جنود، قابله قصف تركي عشوائي أودى بحياة المدنيين الأكراد في مناطق قرب «منبج». حال نجاح أنقرة في فرض المنطقة العازلة فإنها تحقق أهداف عديدة أهمها إجهاض الكيان الكردي المزمع إعلانه مستقبلاً، كذلك تقويض تجربة الإدارة الذاتية الكردية في شمال سوريا، وأخيراً التأكيد لكل أطراف الأزمة السورية وعلى رأسهم الولاياتالمتحدةوروسيا أن تركيا لابد وأن تكون شريك أساسي في أي تسوية مقبلة بخصوص سوريا. ولكن هنا يبقى تساؤل حاسم: هل تستطيع أنقرة تأمين الضوء الأخضر داخلياً وخارجياُ لعمليتها العسكرية في سوريا؟ المؤشرات الأولى تقول أن داخلياً لن يطول استثمار الحكومة التركية لمسألة "توحيد الجبهة الداخلية ضد الخطر الخارجي" وذلك لقناعة تسود هناك مفادها أن إطالة العمليات العسكرية في الخارج يعني استنزاف اقتصادي وسياسي، وفي الأخير كان دائماً في السابق من نصيب الجيش التركي وتدخله في السياسة لغاية منتصف العِقد الماضي، ولكن هذه المرة سيكون بالتأكيد من نصيب «العدالة والتنمية» التي مُنحت حكومته تفويض من البرلمان لعملية عسكرية في سوريا لمدة 15 يوم فقط، وهي إن تم تمديدها فلن تمدد إلى ما لا نهاية، وهذا يعني أن على أنقرة إحراز مكاسب سريعة تمكنها من إطالة أمد التمديد البرلماني، كذا ضمان أن الضوء الأخضر من جانب موسكووطهران سيستمر طالما بقيت العملية العسكرية قيد التفاهم المبرم بينهم وبين أنقرة، ولكن هذا الأمر بالتأكيد لا يمكن استبعاد واشنطن منه، فالأخيرة تعترض أيما اعتراض على التدخل التركي العسكري في سوريا، ولكن من غير المستبعد أن يتحول هذا الاعتراض إلى تفاهم بعد لقاء أردوغان وأوباما في الأيام القادمة وتصفية الخلافات فيما بينهم؛ سواء المتعلقة بالملفات الثنائية أو المتعلقة بسوريا ومحاولة إيجاد صيغة تعاون تغني عن ما قدمه الروس والإيرانيين، وهو ما يعني حال حدوثه الوقوف على شفا حرب مفتوحة بين قوى إقليمية ودولية كبرى.