أظهر الخلاف بين الكيان الصهيوني وفرنسا، الذي طفى على السطح مؤخرًا، البراجماتية الأوروبية في دفاعها عن حقوق الإنسان، ففرنسا كانت من أوائل الدول التي دعمت إسرائيل في ظلمها للشعب الفلسطيني، حيث تعود الانطلاقة الأولى للعلاقة بين فرنسا وإسرائيل إلى وقت مبكر، ففي العام 1946، منحت باريس حق اللجوء لزعيم حزب العمل ورئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي الأسبق، ديفيد بن غوريون وغيره من أعضاء تنظيم "هاغناه" بعد أن طردتهم السلطات البريطانية من فلسطين. التوتر الحالي بين باريس وتل أبيب بسبب هدم الكيان الصهيوني المنازل، ليس لأنها فلسطينية، بل لأنها من تمويل فرنسا، فدولة الاحتلال هدمت الكثير من البيوت الفلسطينية، إما لمعاقبة الشعب الفلسطيني على عمليات الطعن التي نفذها المقاومون مؤخرًا، أو لتنفيذ سياسة التوسع الاستيطاني الجائر التي ينتهجها الكيان الصهيوني، وقتها لم تعترض فرنسا إلا كنوع من ذر الرماد بالعيون لا أكثر باعتبارها دولة تدعي الديمقراطية. نددت فرنسا الخميس الماضي، بإجراءات الهدم الصهيونية لعدد من المباني، التي تم تمويلها من قبل الحكومة الفرنسية، في قرية فلسطينية شمال القدس في الأسبوع الماضي، وأدان بيان الحكومة الفرنسية هدم الجيش الإسرائيلي العديد من المباني الممولة من قبل فرنسا في قرية النبي صموئيل الفلسطينية (الضفة الغربية) في 3 أغسطس. وأضاف البيان الفرنسي "مع هدم عدد من المشاريع الأخرى للاتحاد الأوروبي جنوبي الخليل، تعرب فرنسا عن قلقها العميق إزاء تسارع وتيرة عمليات الهدم والمصادرة هذه للمباني الإنسانية التي تم بناؤها للشعب الفلسطينية في المنطقة (ج).. وندعو السلطات الإسرائيلية لوضع حد لهذه العمليات، التي تشكل خرقا للقانون الدولي". وفي نفس السياق، انطلقت مؤخرًا دعوات إسرائيلية، إلى فرض السيادة الإسرائيلية على مناطق جبشكل أحاديّ الجانب، ومنح المواطنة الإسرائيلية للسكان الفلسطينيين المقيمين فيها، حيث يتطرّق هذه المخطط إلى مناطق جو كأنها منطقة مُستقلة، منفصلة عن سائر مناطق الضفة، إلا أنّ تقسيم الضفة إلى مناطق أ وب وج لا يعكس واقعا جغرافيا مُعطى، بل هو تقسيم إداري تم كجزء من الاتفاق المرحلي ضمن اتفاقيات أوسلو، وكان من المفترض أن يكون التقسيم مؤقتا وأن يسمح بنقل الصلاحيات بشكل تدريجي إلى السلطة الفلسطينية. وكان في عام 1972 يوجد ألف مستوطن صهيوني يعيشون في المنطقة "ج"، وبحلول عام 1993، ارتفع عدد السكان إلى 110 آلاف، واعتبارًا من عام 2012، أصبح عددهم أكثر من 300 ألف، مقابل 150 ألف فلسطيني، وتهدم سلطات دولة الاحتلال الإسرائيلي بانتظام، منازل فلسطينية في المنطقة (C) بذريعة أنها بُنيت بصورة غير قانونية من دون تصاريح وخارج المناطق المخصصة للبناء الفلسطيني. والاشتباك بين تل أبيب وباريس ليس الأول؛ حيث أصدرت عدة دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي، ومن بينها فرنسا، توصيات تحذّر من المخاطر المالية والقانونية التي تمس بسمعة الدولة، المترتبة على مواصلة الأنشطة في المستوطنات، كما اعتمد الاتحاد الأوروبي مذكرة تفسيرية في نوفمبر 2015 بشأن وسم منتجات المستوطنات بغية إطلاع المستهلكين الأوروبيين على منشأ هذه المنتجات المستوردة. وبرز خلاف آخر بين فرنسا والكيان الصهيوني حول قرارأصدره المجلس التنفيذي لليونيسكو في 14 أبريل الماضي بموافقة فرنسا، يهدف إلى "الحفاظ على التراث الثقافي الفلسطيني والطابع المميز للقدس الشرقية"، ورغم أسف فرنسا عن قرارها لإسرائيل، إلا أن الأخيرة لم تقبله على ما يبدو، خاصة أنها لم تقبل بالمبادرة الفرنسية بحل الدولتين من أجل إحلال السلام، وبررت رفضها بأنها تريد أن تدخل في تفاوض مباشر مع الجانب الفلسطيني. وفي 31 يوليو الماضي، قال رئيس وزراء دولة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إنه أمر بالتحقيق في منظمات تحصل على تمويل فرنسي وصفها بأنها معادية لإسرائيل، مضيفا أن تحقيقا أوليا تم إجراؤه كشف عن أن عدد من الدول الأوروبية، من ضمنها فرنسا، دعمت بشكل مباشر منظمات منخرطة في التحريض ضد إسرائيل والدعوات لمقاطعة الدولة اليهودية ولا تعترف بحق إسرائيل في الوجود. ويرى مراقبون أن التوتر الذي يشوب العلاقة بين الطرفين لا يأتي في إطار الحقوق المبدئية للشعب الفلسطيني المظلوم، إنما يأتي في إطار رد الاعتبار، فكل منهما يرى في نفسه دولة قوية، وليس من حق أحد أن يدوس على الآخر، ففرنسا ترى أن تعدي تل أبيب على المباني الممولة فرنسيًا كأنه اعتدى على فرنسا، وتل أبيب ترى أن تهديد فرنسا لها باعترافها بالدولة الفلسطينية في حال عدم قبول الكيان الصهيوني بالمبادرة الفرنسية أمرًا لا يليق بكيان مازال يعتبر نفسه شعب الله المختار.