إذا كنت من قاطني حي السيدة زينب بالقاهرة فأنت -لامحالة- تعلم شيئًا عن واحد من أشهر شوارعها؛ شارع قدري باشا.. لكنك إن سألت أيا من أهالي الحي عن قدري باشا: من هو؟ وما تاريخه؟ وماذا قدّم ليتسمى باسمه ذاك الشارع؟ لم تظفر بإجابة تُذكر..!! محمد قدري باشا ابن مدرسة الألسن ولد محمد قدري باشا في عام 1821م، وأبوه قدري أغا من أعيان "وزير كوبرلي" من أعمال الأناضول بتركيا، ولما وفد إلى مصر أقطعه محمد علي باشا أطيانًا بملوي، واستقر بالمنيا وتزوج من امرأة ذات حسب، تنتهي نسبًا إلى آل بيت رسول الله من فرع الإمام الحسن بن علي. وما لبثا أن أنجبا محمدا، فتعهده أبوه بالرعاية، والتحق بمكتب بملوي، حتى إذا أتم دراسته به، أرسله إلى القاهرة فالتحق بمدرسة الإدارة والألسن، وفيها تعلم بضعًا من اللغات وأتقن الترجمة إلى عُيّن مترجمًا مساعدًا فيها. هو رائد من رواد عصر النهضة المصرية، ينتمي إلى جيل مؤسسي الدولة المصرية المعاصرة، ذلك المشروع الذي وضع لبناته الأساسية محمد علي الكبير ونماه أولاده وأحفاده. شغف بالعلوم واللغة والترجمة منذ نعومة أظفاره، ولم يكن ذا صلة تنظيمية بالأزهر ومناهجه، فلم ينتم ساعة إليه، ولم يلتحق به في أيٍ من مراحل حياته، ورغم ذلك، وفي مفارقة نادرة، برع في العلوم الشرعية، وكان حجة في الفقه الحنفي، وعُني بتقنينه في صورة القوانين الأوربية الحديثة. هذا، إلى جانب إلمامه -وهوالمترجم النابغة- بحركة علم التشريع وأصوله، وإحاطته بمشاربه الاجتماعية والفلسفية في أوروبا. تخصص في علم الفقه والقانون المقارن، واطَّلع على أهم مدارس فلسفة القانون في العالم يومذاك، وقارن بينها وبين الفقه الإسلامي المستمد من الشريعة الإسلامية، الأمر الذي انعكس على إنتاجه ومؤلفاته. في معية الخديو مربيًا لولي العهد وما انفك أن شبَّ الفتى، فبزغ في الأفق نجمه على بني جيله: مترجمًا وفقيهًا وقانونيًا أريبًا، فانتقل إلى سلك الحكومة مترجمًا في ديوان المالية، وليس مساعد مترجم على نحو ما اقتضت الأعراف الوظيفية وقتذاك، ومنه انتقل إلى نظارة الخارجية رئيسًا لقلم الترجمة، ثم إلى قلم ترجمة المحكمة التجارية بالإسكندرية. وبعد الحملة على الشام بقيادة إبراهيم باشا، وُليَّ عليها شريف باشا، فاصطحب قدريَ أثناء ولايته عليها كسكرتير خاص للوالي، وظلَّ كذلك حتى بعد عودته إلى مصر وانقضاء ولايته على الشام. ولا ينبغي أن يفوتنا أن قدري باشا كان ثاني الاثنين المكلفيْن بمهمة خطيرة جليلة: تنقيح الدستور العثماني ومقاربته بالنظم الأوربية المحدثة، فاضطلع بالمهمة برفقة مصطفى أفندي رسمي، فأتماها على وجهها، بعد أن صدر بذلك فرمان سلطاني زمن السلطان عبد العزيز. انضم قدري باشا إلى الدائرة السنية بمعية الخديو، إذ انتقاه الأخير متعهدًا ومربيًا لولي عهده توفيق، خديو مصر فيما بعد. وارتقى بمراتب الدولة، إلى أن دخل حوزة القضاء قاضيًا بمحكمة الاستئناف المختلط، باعتباره يجيد الفرنسية والانجليزية مقتدرًا مكينًا. ومن كرسي القضاء إلى وكيل نظارة الحقانية، وابتداءً من 1881م عُيّن على رأس نظارة الحقانية ناظرًا، ثم ناظرًا للمعارف، فعودةٌ إلى الحقانية مرة أخرى. أبو التشريع المصري في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بدأت البذور تؤتي أُكلَها، وفي خضم المشروع النهضوي، كانت الحركة التجديدي في أوجها، تتدفق في كل مجالات الحياة؛ وفي القلب منها ميدان التشريع والقضاء، فإذا عرفنا حالهما إذّاك، لأدركنا مبلغهما من التخلف والوهن: فلا يوجد قواعد قانونية مكتوبة مصنّفة يُرجع إليها في معاملات الناس اليومية، وليس بيّنًا على وجه التحديد ما يعود إليه القاضي في وصف الجرم وإيقاع العقوبة، وأمور الناس الشخصية في الزواج والإرث وخلافه متضاربة أشد التضارب في شروح وحواشي ومتون كتب الفقه. إنما الحاصل أن كان الحكم بالأهواء، وتضاربت الأحكام، وانتشرت للظلم والجور على حساب العدل والإنصاف. وزادت الوطأة حين أُقر العمل بنظام المحاكم المختلطة؛ تكريسًا لنفوذ الأجانب، وإعمالا لأحكام الامتيازات الأجنبية إثر تفاقم أزمة الديون التي انتهت إلى عزل إسماعيل ونفيه إلى الخارج. عطفًا على ما تقدم؛ فإنا لا نبالغ إذا قلنا أن قدري باشا هو أول من قام بصوغ وتصنيف قوانين مصرية الطابع، توافق عادات وظروف أهل البلاد في تلك الآونة. لقد كانت قضية تشكيل قضاء مصري أهلي، وإصدار تشريعات مصرية الشغلَ الشاغلَ لمناقشات مجلس النظار، الذي أسند لقدري باشا المهمة، فصدرت لائحة ترتيب المحاكم الأهلية (يشبه قانون السلطة القضائية الآن) وقت ولايته لنظارة الحقانية 1881م، وساهم في تعريب كود نابليون مع رفاعة بك ومحمد مجدي باشا والشيخ مخلوف المنياوي مفتي الصعيد، ولكن احتلال الإنجليز البلاد حال دون إتمام إصدار التعريب على هيئة قوانين. وما هي إلا أن أسند الأمر من جديد إلى قدري باشا، فسنَّ مجموعة تقنينات نظامية أهلية جديدة صاغها بالفرنسية أول الأمر، ثم تُرجمت وصدرت بأوامر عليا من الخديو توفيق في 13نوفمبر1883م، واشتملت على التقنين المدني والتجاري والمرافعات والعقوبات وتحقيق الجنايات.. وكلها قوانين حازت على موافقة لجان المراجعة المشكلة لإقرارها وشهدت لها بدقة الصياغة، وموافقة هيئة مستشاري محكمة الاستئناف المختلطة بالإسكندرية بموجب نظام الامتيازات. وبذا، دخلت مصر -مبكرًا- إلى نادي الدول ذات القوانين النظامية المكتوبة والمصنفة على هيئة مواد. فقد صار لمصر قوانين مستقلة توافق طباع أهلها، وليست في ذلك تابعة لاسطنبول عاصمة السلطنة. وأضحى بمصر عدالة تُستمد من قواعد مكتوبة، ومواد مرقومة، بعد أن كان أمرها الفوضى والتضارب. مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان ألّف قدري باشا كتبًا كثيرة، ويأتي مصنفه "مرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان على مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان في المعاملات الشرعية" بمثابة قانون مدني مستمد من أحكام الفقه الحنفي، فأتى به عملا فريدًا، لم يسبقه إليه فقيه مصري، ويعتبر مُنتخبًا جامعًا لمختارات من كتب المذهب الحنفي، جمعها على هيئة مواد قانونية، بلغت 941 مادة، وقسّمه إلى كتب وأبواب وفصول تبعًا لترتيب الأحكام المتشابهة التي عالجها. ولما تُوفى قدري باشا، أمرت الحكومة بشراء الكتاب من ورثته، ودفعت فيه خمسين جنيه سنة 1889، ثم أمرت بطبعه بالمطبعة الأهلية، وقررته نظارة المعارف لتدريسه على المدارس العمومية. وله مؤلفات قانونية أخرى منسّقة أيضًا على نمط القوانين الأوربية، هي "قانون العدل والإنصاف في القضاء على مشكلات الأوقاف" تناول فيه الوقف وأحكامه، وجاء في 464 مادة. وكتاب "الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية". وكتاب "تطبيق ما وجد في القانون المدني -الفرنسي- موافقًا لأحكام مذهب أبي حنيفة" قارن فيه بين القانون المدني الفرنسي والفقه الحنفي. ولا شك، أن هذه الكتب كانت المرجع لكل المشتغلين بالقانون يومئذ. كما أن له ترجمة لقانون الحدود والعقوبات الفرنسي، وله جمهرة كبيرة في اللغات وعلومها، بل امتدت اهتمامات قدري باشا إلى علم الموسيقى وكتب فيه مؤلفًا، إلى جانب ما عرف عنه من مهارة في العزف على آلة العود.