«بلادي بلادي بلادي.. لكِ حبي وفؤادي.. مصر يا أم البلاد.. أنت غايتي والمراد.. وعلى كل العباد.. كم لنيلك من أيادِ.. بلادي بلادي بلادي.. لك حبي وفؤادي.. مصر أنت أغلى دره.. فوق جبين الدهر غرة.. يا بلادي عيشى حرة.. واسلمي رغم الأعادي.. بلادي بلادي بلادي.. لك حبي وفؤادي». كلمات نحفظها جيدًا، رددناها في طابور المدرسة الصباحي، ولايزال طلاب المدارس يرددون هذه الكلمات، وعندما كنا نسمعها في طفولتنا كانت تحرك بداخلنا مشاعر الانتماء وحب الوطن، لكن من كتب هذه الكلمات؟ ومتى وفي أي عام أصبحت هذه الكلمات النشيد الوطني المصري؟ تعود إلى الحقبة الزمنية التي كانت شاهدة على العديد من الأحداث السياسية والاحتلال الإنجليزي لمصر، وبالتحديد عندما تم نفي سعد زغلول ورفاقه، ليترجم الشاعر محمد يونس القاضي، مشاعر الشعب المصري فى هذه الكلمات، ويلحنها الموسيقار سيد دريش، ويتم اعتباره نشيدًا وطنيًّا لمصر عام 1979، بأمر من الرئيس الراحل أنور السادات، ويذكر أن بعض كلمات النشيد مستوحاة من خطبة للزعيم مصطفى كامل. شيخ المؤلفين ولد الشاعر محمد يونس القاضي فى الدرب الأحمر عام 1988، لأبوين من أسرة عريقة بقرية النخيلة بالصعيد، ووالدته السيدة عائشة الحريري، من أعيان القاهرة الفاطمية، ومحمد يونس القاضي ارتبط وطنيًّا وروحيًّا بالزعيم مصطفى كامل، منذ اللقاء الأول الذي جمعهما عام 1905، حين كتب مقالة بجريدة اللواء يهاجم فيها فيها الإنجليز. يقول محمد القاضي عن اللقاء: «خرجت من عنده وأنا متحمس جدًّا، وبدأت قي تأليف الجمعيات الوطنية بالأزهر.. ولا ينسى بالطبع ما قاله له الزعيم مصطفى كامل: يا شيخ يونس أنا بخطب بالفصحى والفرنسية والإنجليزية، لكن الناس في حاجة لمن يحدثهم بلغتهم وأنت الوحيد الذي يستطيع ذلك». وترجم القاضي هذه الكلمات في أعماله الفنية ونشاطاته السياسية الوطنية، حيث كان يشرح خطب الزعيم كامل التي كان يلقيها بالعربية الفصحى، وكان يترجم أيضًا محتويات خطبه بالإنجليزية والفرنسية إلى اللغة العامية لأبناء قريته النخيلة. اعتقاله 19 مرة كان الشاعر يونس القاضي ثورجي، فكانت أغانيه ومسرحياته الوطنية سببًا في اعتقاله 19 مرة، في إحدى المرات خرج الجمهور مرددًا أغاني مسرحياته في إحدى المظاهرات، فتم اعتقاله على إثر كلماته، وفي أحد الأحاديث الصحفية مع يونس القاضي، يحكى أحد المواقف التي تعرض لها أن وكيل الداخلية، نجيب باشا، في ذلك الوقت أمسك بالجبة والقفطان الذي كان يرتديهما القاضي وقال له: «بدل ما تقول الكلام الفارغ ده.. دور ازاي تصنع جبة في بلدك الأول». وعلق القاضي على الموقف قائلًا: «هذا الكلام ظل في رأسي إلى أن بدأت أنادي في الروايات والمسرحيات التي أكتبها بإنشاء المصانع، ومنها: أغنية «أهو ده اللي صار.. ملكش حق تلوم عليَّ»، فالقاضي يشهد له بدوره الكبير والرائد في نشر الثقافة الوطنية وبالإضافة إلى كتبه السياسية، كما كان له السبق والباع الطويل في تأليف الأغاني الوطنية. مراحل مؤثرة فى حياته برزت موهبة القاضي فى كتابة الأغاني الوطنية حينما التقى بالشيخ سيد درويش عام 1917، فجمعت بينهما صداقة استمرات للأبد، وأثمرت عن العديد من الأغاني والوطنية والعاطفية أيضًا، من أغانيه «با بلح زغلول، زروني كل سنة مرة، أنا هويت وانتهيت، خفيف الروح بيتعاجب، أنا عشقت، ضيعت مستقبل حياتي»، وله أغنيات مثيرة للجدل مثل: «بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة، وتعالى يا شاطر نروح القناطر، وإرخي الستارة اللي في ريحنا أحسن جيرانك تجرحنا». وعن علاقته بالموسيقار محمد عبد الوهاب، فيحكي القاضي في أحد الحوارات الصحفية: «عرفت عبد الوهاب قبل أن أقدمه إلى الشيخ سيد دريش ببضع سنوات، وكان يعمل في محل الترزي أحمد يوسف، وكان شقيقه محمد يوسف فنانًا قديرًا؛ فلفت أنظارنا إلى الصبي الصغير الذي يرتدي الجاكيته فوق الجلباب، وكنت وقتئذ أعد رواية لفوزي الجزايرلي وهو على صلة بالشيخ حسن عبد الوهاب شقيق محمد، وطلبنا منه أن يأتي لنا بشقيقه ليغنى بين فصول الرواية، يقصد المسرحية، وجاء عبد الوهاب وغنى ب«ثلاثة قروش صاغ» في الليلة، ويضيف كان هناك أجر أدفعه أنا لعبد الوهاب سواء غنى أو لم يغن، وكان يرفض الغناء إلَّا إذا تناول طبق العاشورة..". القاضي يمنع كل الأغاني الهابطة يعد يونس القاضي أول رقيب مصري على المصنفات الفنية، وعند تعيينه منع كل الأغاني الهابطة التي قام بتأليفها، ومن طرائف شيخ المؤلفين أنه كتب أغنية «زوروني كل سنة مرة» لأخته بعد الخلاف الذي وقع بينهما ووصل إلى القطيعة، وعلى الفور فهمت عتابه من خلال الأغنية التي انتشرت في أرجاء مصر، فتصالحت معه. تجاهل الإعلام له عانى يونس القاضي من تجاهل الإعلام له، فيقول حسين عثمان في حكاياته وذكريات من الذاكرة لمجلة الكواكب عام 1979، عن شيخ المؤلفين: «الكثيرون يظنون أن سيد درويش هو مؤلف نشيد «بلادي بلادي» وقد روى لي القاضي أنا وبعض الزملاء عن استيائه من ادعاء البعض ملكيته للنشيد، حتى إننى ذكرته بحكايته لي أنه كان قد سجل هذا النشيد مع عشرة أناشيد أخرى في المحكمة المختلطة عام 1923، قبل أن تكون هناك جمعية للمؤلفين والملحنين. وغنت النشيد الست تودد على اسطوانة مسجلة لشركة ميشيان تحت رقم 923، وكذلك محمد بهجت لنفس الشركة تحت رقم 942، واختاره الموسيقار عبد الوهاب عام 1978 عقب توقيع معاهدة السلام ليكون النشيد الوطني للبلاد، وبعدها تحرك وأبناؤه لإثبات حقوق الأداء عن النشيد لدى شركات التسجيلات. توفى يونس القاضي عام 1969، تجاوزت أعماله المسرحية 58 عملًا مسرحيًّا متعددة الأوجه، وذكر في آخر حديث له لجريدة الأخبار، عام 1966: «أنا أعيش في ضياع.. أريد أن تمر أيامي بسرعة.. أعيش الآن تائهًا.. صرفت كل ما أملك على الأدوية والعلاج.. الخوف من الأيام يطاردني.. إن آلامي من الناس فاقت كل ما تجمع في جسدي من آلام».