الباعة: موت وخراب ديار.. ونرفض نقل السوق إلى مايو ومسؤولو الحي لأحد المعترضين: اسكت وما تعملش ثورجي بدل ما نعتقلك رئيس الحي: جارٍ نقل السوق.. والباعة احتلوا الأماكن في هوجة الثورة على بعد دقائق من ميدان السيدة عائشة، بين الشوارع الضيقة والمدافن العتيقة، يفترش الباعة، بوجوه باهتة تحرقها أشعة الشمس دون حراك، عششهم المليئة بقطع الموبليا القديمة والخردة والثلاجات والتليفزيونات التي تكسوها الأتربة، في سوق الجمعة بالإمام التونسي، أشهر الأسواق الشعبية التي يلجأ إليها الفقراء. المشهد كئيب، فما بين قطع الخردة القديمة وصوت القرآن القادم من قلب المقابر، تقف أشباح الخراب والحزن مخيمة على الجميع، ورائحة أدخنة الحريق ما زالت تزكم الأنوف، والأرض متشحة بالسواد إثر حريق 50 عشة أو باكية للبائعين بالسوق، يجلسون في صمت وسط الأنقاض، لا يختلفون عن هؤلاء الموتى خلف أسوار المقابر.. «البديل» في جولة ترصد أوجاع وهموم الباعة ومطالبهم، بعد انقطاع أرزاقهم بحريق البضاعة التي تقدر بعشرات الآلاف تحت نيران الحريق. بجلبابه الصعيدي وعمامته البيضاء، التي لوَّنها سواد الحريق، يجلس عم عبد الرحمن الليثي، 50 عامًا، وسط ركام السيراميك المحترق والمكسور، يقول بحسرة: هاحكي إيه، ما خلاص كل شقا عمري راح، بضاعة بنصف مليون جنيه اتحرقت أمام عيني. يصمت قليلًا متأملًا بضاعته المحروقة على الأرض ليكمل: لو كانت المطافئ أسرعت في الوصول نصف ساعة مبكرة فقط، لما كان كل هذا الخراب أن يحدث، لكن تأخرها لمدة 3 ساعات بعد الاستغاثة بها، ومجيئها من مدينة نصر، زاد الأمر سوءًا، ولا نعلم أين مطافئ البساتين، مؤكدًا أن الحريقة كانت صغيرة، بدأت باحتراق «كومة من القمامة»، متسائلًا: من يعوضني عن هذه البضاعة؟ ومن يسدد ثمنها لأصحاب المصانع؟ وتابع: بعد حريق العشة لا يتبقي سوى الخراب والسجن؛ بسبب ديون البضاعة، معربًا عن أن الدولة لم تصرف لهم تعويضات مثلما فعلت مع باعة العتبة، وكأننا لسنا مواطنين في هذا البلد، وكأن كلام السيسي عن الفقراء مجرد كلام تليفزيونات، نحن بائعون ولسنا بلطجية، أيادينا ليست ناعمة، أي ندعم الصناعة والتجارة، نعمل في ظروف صعبة، ورغم ذلك تهملنا الدولة. ويصرخ بجواره محمود علي، 30 عامًا، الذي لا يظهر من سواد حريق خردته: هي الحكومة عايزة تموت الشعب الغلبان، أذهب لرئيس الحي وأشكو إليه حالي بعد الحريق بسبب ديوني التي احترقت مع البضاعة في ساعات، وتهديد أسرتي المكونة من 4 أطفال من تشريد، فيرد عليَّ قائلًا: وانت بتخلف ليه؟! وأضاف: احترقت الباكية التي تربيت فيها ومات والدي عليها، ولم أعرف شيئًا سوى بيع الخردة بسوق الجمعة، ومع ذلك يأتي الحي ليزيل الأنقاض بخردتنا دون أن يترك لنا فرصة جمع ما تبقى منها لبيعه وسداد جزء من الديون، بالإضافة إلى أن الحي أخبرنا صراحة بأن السوق سينقل إلى مدينة 15 مايو، وكأن الحكومة تريد إلقاءنا في جبل بعيد منفي لكي لا ترانا، ولا يهمها إذا كان المكان الجديد مناسبًا لحركة البيع أم سيدمرها أكثر. وأضاف: حي الخليفة والمحافظة افتكروا دلوقتي إن عششنا مخالفة، رغم أن سوق الجمعة بالتونسي يعود لأكثر من 40 سنة، متسائلًا: أين كانت الدولة عندما كان موظفو الحي وأمناء الشرطة يفرضون على البائعين إتاوة شهرية 200 جنيه، بدعوى حمايتنا وتوفير احتياجتنا؟ وعندما رفضت سحبني أمين شرطة إلى قسم الخليفة لتكديري خمسة أيام بدون جريمة. وعلى أحد أنقاض العشش المحترقة، يصرخ أحد الباعة في عدد من مسؤولي الحي: نحن ندافع عن حقنا وحق أولادنا، لن نمشي من التونسي، اسمحوا لنا ببناء الباكيات بشكل متطور في نفس الأرض، ولا تقطعوا عيشنا بالنقل، ليرد المسؤول: هتسكت ولا أعتقلك؟ هو انت الثورجي اللي فيهم؟ اسكت لاحبسك وأقول عليك محرض ضد الدولة، ليأتي صوت البائع هذه المرة منخفضًا مكتومًا بالقهر والخوف: ليه يا باشا؟ إحنا عايزين ناكل عيش مش أكتر، والدولة دي على راسنا. ومن ذلك المواطن المقهور لرجل ستيني يقف وسط عشته المحترقة بكاملها، الدموع تملأ عينيه ويصرخ: عليه العوض ومنه العوض، ليقول عم حسن أنور: أجلس على هذه الباكية منذ 40 عامًا، تزوجت وأنجبت وربيت أولادي الأربعة من رزق هذه العشة، أبيع كل شيء، ثلاجات وبوتاجازت قديمة وقطع من الخردة والحديد والأخشاب، عشا أيامًا صعبة وحلوة، الدولة لا تعترف بوجودنا، لم يسألنا أحد كيف تمضي حياتكم بعد اندلاع الثورة وضعف حركة البيع والشراء منذ 5 سنوات، ومع ذلك لم نطلب من الدولة شيئًا. وأضاف: اليوم بعد احتراق أكل عيشنا تريد الحكومة أن تكمل على ما تبقى من أنفاس بجسدنا، بنقل سوق الجمعة إلى مايو، ولا تفكر مَن الزبون الذي يذهب إلى مايو لشراء بضاعة قديمة ويدفع على نقلها أجرة تصل إلى 400 جنيه لبعد المسافة، أما التونسي بالسيدة عائشة فهي منطقة استراتيجية وقريبة من كل مناطق القاهرة والجيزة. وقال نافيًا كلام رئيس الحي بأن الباعة احتلوا أرض الدولة: لم نحتل شيئًا، لسنا أعداء، نحن أبناء هذا الوطن، حاربت ودمي سال في جيشها دفاعًا عن الأرض، ونعلم جيدًا قيمة الأرض، بل قمنا بدور الدولة الغائب، فكانت المنطقة مهجورة ومرتعًا للبلطجية وجرائم المخدرات، لكن جاء البائعون منذ عشرات السنوات لينظفوا المكان، ويعملوا في ظروف صعبة وخطرة لا يحتملها بشر، من أجل بضعة جنيهات حلال لإطعام أولادنا. المدهش أن أغلب الباكيات أو العشش يتم تغطية جوانبها وسقفها بالصاج والقماش وبلافتات مرشحي مجلس النواب بصورهم الأنيقة وشعاراتهم الوردية، وعندما سألنا عن نزولهم للبائعين بعد الحريق، قال الحاج علي فهمي، 65 عامًا: البهوات ينزلوا ويتركوا مكاتبهم المكيفة؟! انتهت مصلحتهم من أهالي السيدة عائشة، وحصلوا على أصواتنا، ثم ما الذي ننتظره من مجلس نواب سيوافق على بيع أراضي مصرية مثل تيران وصنافير، فنحن لن نتوقع منه خيرًا لبائعي سوق الجمعة أو أي دفاع ومساندة لحقوقنا في عدم النقل لمكان آخر. وبهذا الوعي المولود من رحم الحريق، يقول محمد سيد، 40 عامًا: أنا مهندس وفخور إني بائع على فرشة بسوق الجمعة، وهذه رسالة للمسؤولين الذين يتعاملون مع بائعي السوق على أنهم مجرد ناس عشوائية تلوث مظهر القاهرة الحضاري، السوق يضم باعة حاصلين على ليسانس وبكالوريوس وأقل شهادة دبلوم، فهم مواطنون كادحون لم ينتظروا على المقاهي تعيين الحكومة. وأضاف: السوق تحتاج فقط إلى نقطة مطافئ دائمة وإسعاف، وتوصيل مرافق من الحي، وسيقوم الجميع بدفع تكاليفها، أما النقل فهو حكم بالإعدام والتشريد لأكثر من مليون شخص، تتمثل أرزاقهم في العمل بهذه السوق ومسكنهم بجوارها، فكل عشة تضم معلمًا و20 عاملًا؛ لأن مكان سوق الجمعة قريب لأكثر من ثلثي الشعب المصري الذين يخدمهم السوق، من أثاث قديم وأداوت كهربائية وصحية. وأثناء جولة «البديل» بالسوق تصادف وجود اللواء وجدي محمد، رئيس حي الخليفة، يجلس ومعه بعض مساعديه في أحد أطراف السوق بجوار الباكيات أو العشش المحترقة، وتضج من حوله صرخات الأهالي التي تطالب بعدم إزالة عششهم، ليقول لأحد مساعديه: «فين الأمن؟ خليه يبعدهم عني». لترد مجموعة سيدات: هو احنا حيوانات عشان الأمن يبعدهم عنك؟ إنت مسؤول هنا ولازم تحل مشاكلنا، هو انت عشان قاعد في مكتبك المكيف عايز تشوط الناس؟ حسوا بالناس الغلابة، فين السيسي اللي انتخبناه يشوف اللي بيحصل لنا من رجالته؟ فين الغلابة اللي بتصدعنا الحكومة بالكلام عنهم ليل نهار؟ وهنا استشاط رئيس الحي غضبًا، ونظر لمساعديه لينفذوا أوامره بإزاحة المواطنين من أمامه. وبسؤاله عن وضع أصحاب العشش المحترقة والتعويضات التي تصرف لهم، قال اللواء مجدي في تصريحات خاصة ل«البديل» إن الشؤون الاجتماعية نزلت بالأمس بعد اندلاع الحريق، وستحصر الخسائر لتبدأ في صرف التعويضات لهم، موضحًا أنه ليس الحريق الأول لسوق الجمعة، فالبداية كانت في 2009، "والحمد لله أكلتهم الحريقة ولم يتبقَّ من عششهم شيء"!! على حد قوله! وأضاف أنه بعد ثورة يناير، ومع انتشار البلطجة، عاد البائعون من جديد ليحتلوا أراضي السوق، التي ليست من حقهم، مثلما احتلوا شوارع وسط البلد الرئيسية التي يقدر المتر فيها بمئات الآلاف، ثم اندلعت حريقة 2014، وبعدها تم حصر أعدادهم الجديدة، وجهزت محافظة القاهرة سوقًا لهم على أعلى مستوى، بمساحة 15 فدانًا بمدينة 15 مايو، تمتلئ بالباكيات الحديثة بدلًا من هذه العشش العشوائية، لكنهم يرفضون الانتقال إلى الآن. وتابع: أما الحريقة الثالثة التي وقعت أمس، فقد ترتب عليها احتراق 20 عشة وليس 50 كما نقلت الصحف، وما زالت التحقيقات جارية للتعرف على أسباب الحريق، والحي يستهدف خلال هذه الفترة رفع الأنقاض وفتح الشارع وإزالة ما تبقى من عشش مخالفة بجوار سور المجزر الآلي ورصف الطريق؛ تمهيدًا لنقلهم للسوق الجديدة. وبسؤاله عن رفض البائعين الانتقال، صرح رئيس حي الخليفة: عادي وما الجديد؟ اعتراض من أجل الاعتراض، مثلما فعل بائعو وسط البلد، بعد حصرهم ونقلهم للترجمان، اكتشف الجميع أن الهوجة المفتعلة التي قالت إن نقلهم قتل ل3 ملايين بائع جائل، وثبت عكس ذلك، لنجد عددًا محدودًا فقط يعمل إلى الآن في الترجمان، والباقي لم يكن بائعًا، بل دخل في الهوجة. وأكد أنه جارٍ الانتهاء من تجهيز سوق آخر مطور، يقع بين البساتين و15 مايو، وهي منطقة أقرب من تلك التي كان يشتكي منها الباعة، ليتم نقل سوق الجمعة إليها نهائيًّا، والقضاء على هذه المشاهد العشوائية والحرائق المتكررة. أما عن هدم عشش باعة منتجات المدبح بجوار المجزر الآلي، التي رصدتها «البديل» أثناء جولتها بالسوق المحترقة، قال اللواء مجدي: ليس لهم أحقية الجلوس أصلًا، فوجودهم مخالف، ولديهم أماكن مخصصة لبيع منتجات المدبح، إما في سوق «الأسقاط» أو داخل المجزر الآلي، والدولة لن تتوانى عن بسط هيبتها وسيادتها على أراضيها التي يحتلها البعض دون وجه حق.