يكتسي الحديث عن الجهاز المركزي للمحاسبات هذه الأيام أهمية خاصة؛ نظرًا لما جرى مع رئيسه المستشار هشام جنينة بعزله من منصبه، والإطاحة به خارج الجهاز، غداة التحقيقات التي أجريت معه في واقعة إعلانه بيانات تتعلق بحجم الفساد في مصر، وكلْفته على ميزانية الدولة خلال الأعوام 2012 حتى 2015، وهو ما عدّته لجنة التحقيق مجافيًا للحقيقة، مما يستوجب مساءلة جنينة.. ولكن ثمة أهمية أخرى للحديث تفرضها ذاتية الجهاز المركزي للمحاسبات، باعتباره أقدم الأجهزة الرقابية في مصر، إذ صدر بقانون إنشائه المرسوم الملكي رقم 52 الصادر بتاريخ 16 أغسطس 1942، وهو بلا جدال أهم الأجهزة الرقابية، بوصفه أمينًا على المال العام، بما له من صلاحيات واختصاصات واسعة في مراقبة وضبط وتصويب أداء أجهزة الدولة جميعها وبعض المؤسسات والكيانات الخاصة وفق شروط محددة في تعاطيها مع المال العام، والكشف عن المخالفات المالية والإدارية، وإحالة المخالفين إلى الجهات المختصة بالتحقيق والمحاكمة، علاوة على مراجعة الميزانية العامة للدولة بكل عناصرها، وحسابها الختامي على المستويين المركزي والجهوي.. والجدل الجاري على الساحة الآن مستحق ومفهوم بطبيعة الحال، فالفساد مستشرٍ في كل قطاعات الدولة، ويأخذ طابعًا مؤسسيًّا.. وحين يُعزل رئيس أكبر جهاز رقابي بهذه الطريقة؛ فثمة أسئلة سياسية ودستورية وقانونية تفرض نفسها. ولئن كانت هذه المساحة لا تنفسح للإجابة عن كل الأسئلة، فحسبنا هنا أن نعرض لبعض أمور جوهرية تتصل إجمالًا بالمنطق الدستوري والقانوني السليم إزاء مثل هكذا حدَث.. 1. والواقع أن كل الدساتير السابقة خلت من نصوص تتصل بأوضاع الأجهزة الرقابية المتخصصة إلى دستور 2012، فهو أول من تناول الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية بالنص عليها، وأفرد لها بابًا مستقلًّا؛ ونص في مواده من «200» حتى «203» على تحديدها وتقرير أوضاعها العامة، وكفل لها مجموعة من الضمانات الأساسية اللازمة للاستقلال والحيدة والنزاهة.. 2. ولحساسية منصب رئيس الجهاز أو الهيئة، فقد نصت المادة «200» منه على: «يعين رئيس الجمهورية رؤساء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية بعد موافقة مجلس الشورى، وذلك لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة. ولا يعزلون إلَّا بموافقة أغلبية أعضاء المجلس، ويُحظر عليهم ما يحظر على الوزارء». وواضح من نص هذه المادة حظر العزل لأي من رؤساء الأجهزة والهيئات إلَّا بعد موافقة أغلبية أعضاء مجلس الشورى إذا كان مجلس النواب محلولًا إذاك وهذا أمر طبيعي ومسلَّم به؛ طالما أن رئيس الجهاز أو الهيئة يكون تعيينه بموافقة مجلس برلماني، فمن البديهي أن يشارك أيضًا في قرار عزله، توفيرًا للثقة والأمان لدى أولئك الرؤساء أثناء أدائهم أعمالهم في مكافحة الفساد والكشف عن وقائعه وملاحقة الفاسدين.. 3. أما «دستور 2014» فلم تأت نصوصه خلوًا من الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية، إذ جاء بالفرع الثاني من الفصل الحادي عشر، وتحت عنوان «الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية» بيان لمجموعة من الأحكام الدستورية الخاصة بهذه الهيئات والأجهزة، ويدخل في نطاقها بطبيعة الحال الجهاز المركزي للمحاسبات، وعدّدت النصوص من «215» حتى «221» جملة من الضمانات، وأكدت الاستقلال المالي والفني والإداري لمثل تلك الهيئات والأجهزة، لكن ويا للمفارقة جاء النص المقابل لنص المادة «200» من دستور 2012 بحكم جديد؛ تضمنه نص المادة «216» الفقرة الثانية بإباحة «إعفاء» رؤساء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم، وفقًا لقانون يبيّن الحالات المستوجبة للإعفاء!! 4. وفي 9 يوليو 2015 صدر قرار رئيس الجمهورية رقم «89» لسنة 2015 بشأن حالات إعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم، وأعطى لرئيس الجمهورية مطلق الصلاحية في إعفاء ليس فقط رؤساء تلك الهيئات والأجهزة، بل امتدت يده إلى أعضائها أيضًا.. وبذا بات لرئيس الجمهورية منفردًا سلطة النظر والبت في إعفاء أو إبقاء رئيس أو عضو الهيئة أو الجهاز، بعد أن كان البرلمان مشاركًا له في هذا الأمر قبل تعديل دستور 2014.. 5. يضاف إلى ما سبق عوار دستوري آخر؛ ذلك أنه من المفترض أن القانون المقصود في المادة 2016 من «دستور 2014» هو قانون تشكيل الهيئة أو الجهاز ذاته، وليس قانونًا مستقلًّا يصدر بذلك. يؤكد ذلك استعراض نص هذه المادة بفقرتيها؛ إذا تنص على: «يصدر بتشكيل كل هيئة مستقلة أو جهاز رقابي قانون، يحدد اختصاصاتها، ونظام عملها، وضمانات استقلالها، والحماية اللازمة لأعضائها، وسائر أوضاعهم الوظيفية، بما يكفل لهم الحياد والاستقلال. يُعيّن رئيس الجمهورية رؤساء تلك الهيئات والأجهزة بعد موافقة مجلس النواب بأغلبية أعضائه لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة، ولا يُعفى أي منهم من منصبه إلَّا فى الحالات المحددة بالقانون، ويُحظر عليهم ما يُحظر على الوزراء». 6. فالمنطق الدستوري والقانوني السليم، وفقا لنص المادة الآنفة، يقتضي النص على مثل هذه الحالات في قانون الهيئة أو الجهاز، بتعديل يجري إدخاله على قوانين الهيئات والأجهزة مثل قانون تنظيم الجهاز المركزي للمحاسبات وقانون هيئة الرقابة الإدارية.. إلخ وليس في قانون خاص مع التسليم باحتمال حدوث عوارض تفقد شاغل المنصب للأهلية اللازمة للاستمرار فيه. ولكن مناط هذا هو اتخاذ إجراءات محاطة بالضمانات الكافية، ويتولى تحقيق وفحص تحقق حالة من حالات الإعفاء أو عدم الصلاحية هيئة قضائية خاصة، ودون تدخل من السلطة التنفيذية؛ لأنها تخضع بالأساس لسلطة الهيئة أو الجهاز الرقابية «على سبيل المثال تقضي المادة 20 من قانون الجهاز المركزي للمحاسبات رقم 144 لسنة 1988 بسريان القواعد المقررة في قانون محاكمة الوزراء في شأن اتهام ومحاكمة رئيس الجهاز» ناهيك أن يستقل رئيس السلطة التنفيذية «رئيس الجمهورية» بتحديد حالة الإعفاء وبدون ما يكفل أي حد أدنى من الحياد والاستقلالية.. فمن اشترك البرلمان في تعيينه ينبغي أن يشترك في عزله أو إعفائه. 7. يؤيد ما نقول به أخيرًا أن نص المادة «203» من دستور 2012 المعدل «فدستور 2012 لم يُلغ، ولكن أدخلت تعديلات عليه في 2014» اعتمد هذا النظر، بأن أحال إلى القانون الخاص بالهيئة أو الجهاز ببيان طريقة تعيين أعضائها، وترقيتهم، ومساءلتهم، وعزلهم.. فجرى نصها على: «يصدر قانون بتشكيل كل هيئة مستقلة أو جهاز رقابي، يحدد الاختصاصات الأخرى غير المنصوص عليها فى الدستور، ونظام عملها؛ ويمنح أعضاءها الضمانات اللازمة لأداء عملهم، ويبين القانون طريقة تعيينهم وترقيتهم ومساءلتهم وعزلهم، وغير ذلك من أوضاعهم الوظيفية بما يكفل لهم الحياد والاستقلال». وبالتالي فإن في إصدار قانون خاص ببيان حالات الإعفاء كما في القانون 89 لسنة 2015، انتهاكًا للدستور، وقصورًا في فهم أحكامه. تلك إذن كلمة موجزة، نقدمها عجالةً، اقتضاها واقع الحال، تنطبق على الحالة الراهنة بشأن المركزي للمحاسبات جهازًا ورئيسًا باعتباره هيئة رقابية مستقلة، وكذلك تسري على أي هيئة مستقلة أو جهاز رقابي آخر، مهدّد ولا شك بالقانون رقم 89 لسنة 2015.