منذ ثمانينيات القرن الماضي، وبعد التحول الذي بدأه الرئيس الأسبق، محمد أنو السادات، في سياسات مصر الداخلية والخارجية، أضحى دور القاهرة الإقليمي يتركز بشكل حصري في تسويق السياسات الأميركية في المنطقة، وإنفاذ روشتة "السلام" الخاصة بواشنطن بين إسرائيل والعرب، فأصبح (الصراع العربي-الإسرائيلي) يطلق عليه (عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين)، وهي العملية التي كانت إدارتها إقليمياً منذ أواخر الثمانينيات موكلة بشكل حصري للقاهرة، التي بادرت لتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل قبلها بسنوات. وطيلة العقود الثلاثة الماضية كان دور الوسيط أو الراعي الإقليمي لعملية السلام هذه محصوراً في مصر، إلى أن أطلت الألفية الجديدة بمتغيرات بدأت بأحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تبعها من الغزو الأميركي للعراق بالإضافة لعوامل داخلية خاصة بتراجع دور مصر في المنطقة لأن تشارك الرياضالقاهرة دورها المعهود السابق، ليتجلى هذا في "مبادرة السلام العربية" التي هي بالأصل مبادرة سعودية أقترحها الملك السعودي السابق، عبدالله بن عبد العزيز وتبنتها الجامعة العربية عام 2005 بدعم رئيسي من مصر، وبذلك قفزت الدولتان العربيتان الأكبر والأهم من (التطبيع مقابل السلام) إلى (السلام مقابل التطبيع). الشراكة بين القاهرةوالرياض في تسويق المبادرة سابقة الذكر لم يكن غريباً في ظل شراكة العاصمتين في تنفيذ السياسات الأميركية وتحت مظلتها، وهي الشراكة التي بدأت منذ حرب أفغانستان في أواخر سبعينيات القرن الماضي وموقف مصر والسعودية الموحد ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان وهو الموقف المتوافق مع السياسات الأميركية، وهو ما استمر في حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت، وصولاً إلى استراتيجية عامة قائمة على قيادة مشتركة من البلدين لدفة سياسات الدول العربية الخارجية بما يتناسب مع الرياح الأميركية، والتي كان من أوائل مفاعيلها القضية الفلسطينية والمبادرة سابقة الذكر. سريعاً إلى الأمام، وما مر بالمنطقة بأحداث كبيرة خلال العقد الماضي وخاصة في السنوات الخمس الأخيرة على مستوى المنطقة بشكل عام وعلى المستوى الداخلي في كل من السعودية ومصر، حدث تبدل في شكل هذه العلاقة الثنائية بين البلدين، خاصة مع الانسحاب التدريجي للهيمنة الأميركية المباشرة في المنطقة، واختلاف وتباين الرؤى والتوجهات إزاء ملفات وقضايا عدّة في المنطقة بين القاهرةوالرياض، ورغبة الأخيرة أن تصبح الأولى تابع منفذ لا شريك مخطط في سياسات إدارة هذه الملفات وحتى وإن كانت هذه السياسات عشوائية وارتجالية. وهنا لا يستبعد أن الرياض تسعى حالياً في أن تأخذ زمام المبادرة والإدارة فيما يتعلق بإدارة العلاقات العربية-الإسرائيلية، والتي نجحت فيها الرياض في السنوات الأخيرة على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي، وحتى بشكل ثنائي؛ فالرياض وتل أبيب ذهبا بتطبيع علاقاتهم إلى حد التحالف القائم على تقاطع المصالح سواء فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني أو الأزمة السورية، وأخيراً موقفهم الموحد ضد حزب الله واعتباره من جانب الدولتين تنظيم إرهابي. هذا بالطبع زاد من حدة التباين بين القاهرةوالرياض، سواء فيما يتعلق بمنافسة الثانية على دور الأولى الإقليمي فيما يخص العلاقات مع إسرائيل، أو فيما يتعلق بقطاع غزة. وقبل هذا التوجهات السعودية التي يراها القائمين على الأمور في مصر بأنها تضر مصلحتها بل وأمنها القومي، سواء كان هذا في المجال الاستراتيجي شمالاً في سورياوغزة، أو جنوباً في أثيوبيا والسودان، واللتان تلعب فيهم السعودية دوراً يختص جزء منه بالضغط على مصر من أجل تبعية سياساتها الخارجية للمملكة، وهو الأمر الذي تجلى في تحول الخرطوم إلى تبعية الرياض وما ترتب عليه من دعم سعودي للأولى فيما يتعلق بأزمة مثلث "حلايب"، وصولاً إلى التعاون الأمني والاستخباراتي بين البلدين فيما يخص إيران والمقاومة عندما كانت الخرطوم على وفاق معهم، وهذه النقطة بالتحديد جعلت هناك تلاقي أمني بين القاهرة وبين محور المقاومة وصل إلى حد زيارة وفد رسمي من حزب الله إلى القاهرة منذ أسبوعين. إذن لا يمكن النظر إلى موقف القاهرة الأخير تجاه حركة "حماس" إلا من خلال إطار أنها رسالة ضغط مزدوج لعدم تعويلها على الرياض في معالجة أمور قطاع غزة وغيرها عوضاً عن القاهرة، أو أنها رسالة مزدوجة للإسرائيليين والسعوديين مفادها أن الوفاق وتبادل المصالح وتقاطعها يفيد الجميع على عكس الترتيبات الثنائية المشتركة المُبعدة عنها القاهرة. إلا أنه من زاوية أخرى تخلو من التباين والاختلاف بين الأطرف السابقة، والمقصود هنا مصر والسعودية، فإنه لا يمكن اعتبار أنه في أسبوع واحد تتخذ كل من القاهرةوالرياض قرارات مضادة وتعسفية ضد المقاومة في لبنانوغزة، وحتى أن اختلف الأمر وتباين في تفاصيله وخلفياته بالنسبة للأخيرة، إلا أن المحصلة العامة هو استفادة تل أبيب المطلقة من سلوك القاهرةوالرياض في الأيام السابقة، سواء كان ذلك ينم عن تباين في الرؤى بين البلدين أو عن توافق عنوانه تبادل المصلحة مع إسرائيل، على غرار ما كانت السعودية ومصر يجيدونه في ظل الإشراف الأميركي في العقود الثلاثة الماضية. هنا يتبادر إلى الذهن ما تجلى على لسان مسئولين إسرائيليين، سياسيين وأمنيين في الآونة الأخيرة فيما يتعلق بجودة العلاقات الإسرائيلية العربية وتحسنها، وخاصة العلاقات بين تل أبيب والقاهرة، وبين تل أبيب والرياض، وهذا لا يدل على سيناريوهين لا ثالث لهما؛ الأول منافسة الرياض للقاهرة على إدارة العلاقات العربية الإسرائيلية وإدماج إسرائيل في المنطقة على كافة المستويات الرسمية والشعبية وما يلي ذلك من إجراءات مماثلة لما شرعت فيه الرياضوالقاهرة تجاه حركات المقاومة. والثاني أن هناك تقاسم أدوار وتكامل لتنفيذ نفس الهدف السابق وهو إدماج إسرائيل على النحو السابق عن طريق البلدين، أو حتى تكون تحالف إقليمي جديد من الدول الثلاث بشكل رئيسي، وأن التباين بين السعودية ومصر في هذا الإطار هو تباين مرحلي ناتج عن عدم ضبط موجة العلاقات بينهما بشكل كامل عقب التغييرات التي حدثت في البلدين وفي المنطقة بشكل عام في السنوات الثلاث الأخيرة، وأن أياً من الاحتمالات السابقة لن يحدث سوى بالشراكة بين القاهرةوالرياض لا انفراد أحدهما بها دون الأخر. أن القاهرة لا تستبدل بالرياض بالنسبة لإسرائيل..منافسة الرياض للقاهرة على دور الأخيرة التاريخي في الثلاث عقود الأخيرة في قيادة العلاقات العربية الإسرائيلية. وكخلاصة عامة، فإن ما بين القاهرة وحماس من جهة، والرياض وحزب الله من جهة أخرى، لا يجمعه سوى المصلحة/الضرر بالنسبة لإسرائيل، وبالتالي فإن التوافق أو التباين بين السعودية ومصر في هذا الإطار –ولكل منهما مبرراته وترتيب أولوياته- لا يخرج عن إطار عام عنوانه التكامل السياسي مع إسرائيل في إدارة سياسات المنطقة وانطلاق من التصدي لمحور المقاومة، وهو ما ينعكس على الجانب الأخر والذي تحسب فيه حركة حماس نفسها وعلى كل التباين والخصومة التي نتجت من موقفها من الأزمة السورية مع مكونات هذا المحور؛ ففي الوقت الذي تضع فيه السعودية معيار الصداقة والعداوة طبقاً لموقف الدولة أو الحركة من إيران ومحور المقاومة، بالإضافة إلى مدى القبول بإسرائيل كحليف للمملكة مؤخراً، نجد أن المعادلات على تعقيداتها وتباينها تتفق على أمر واحد –سواء وعى واضعيها والمشتركين فيها ذلك أم لا- هو التكامل والتوافق مع إسرائيل ومصلحتها.