"طيب إنت يا أنور أسست الضباط الأحرار, ماشي, و عملت الثورة, ماشي, لكن بذمتك كنت تقدر تقولي يا جمال حاف كدة !" كان هذا جمال عبد الناصر بعد وفاته مخاطبا السادات في منامه, و كانت هذه واحدة من أشهر نكات السبعينات والتي كانت تسخر من ذات السادات التي تضخمت فجأة ومن إدعاءاته المتكررة عن منجزاته الفريدة، وعن نصحه الدائم لعبد الناصر الذي دوما ما كان يشير إليه في أحاديثة الثرثارة الكثيرة ب"جمال" حاف كدة. الرئيس الضرورة فكرة الرئيس الضرورة ليست من بنات أفكار المصريين, ولا وليدة المنطقة المأزومة التي ترابط فيها الضرورة، التي تحتاج إلى رئيس بمواصفات محددة. كما أنها ليست وليدة الدولة المستبدة التي يتحكم في مصائرها بعض العصابات, فديمقراطية مستقرة كالتي في الولاياتالمتحدة مثلا تلجأ للرئيس الضرورة بين الحين و الآخر, ففرانكلين روزفلت بفتراته الرئاسية الأربعة كان رئيس ضرورة بسبب الحرب, و هاري ترومان نائبه الذي أصبح رئيسا كان رئيس ضرورة لإيقاف هنري ولاس التقدمي اليساري نصير العمال، والمنادي بحقوق السود، والذي كان من الممكن أن ينهي الحرب الباردة قبل أن تبدأ, و كذلك ريجان الذي حكم قرابة فترة رئاسية كاملة، وهو فاقد الذاكرة لوقف تصاعد الحركات العمالية، وتدجين الآلة الإعلامية والآفاق التي فتحتها التكنولوجيا, وأوباما أيضا بمعني من المعاني كان رئيسا ضرورة هو الآخر فأمريكا كانت تحتاج لحملة تبييض وجه في أعقاب سياسات خرقاء فاشلة, ولا أفضل من أول رئيس أسود ذي أصول إثنية ودينية متعددة ولديه العديد من المواهب ليقودها. غير أن المقارنة بين الشرق التعيس والديمقراطيات المستقرة قد تبدو مجحفة ومُخلّة, ففي الأخير في تلك الديمقراطيات يمكن لأي شخص أن يخطط أن يصل إلى رأس السلطة شريطة أن يملك الحد الأدني من المقومات مع الكثير من الحظ, فالقنوات موجودة وأدوات العمل متوفرة .. غير أن المرء لا يستطيع إلا أن يفكر في الأمر: لماذا لا يحكمنا إلا رئيس الضرورة, ولماذا علي رئيس الضرورة هذا أن يكون تافها! ربما يعجب البعض من استنتاج كهذا, لكنه وعلي جسامة منصب رئيس الجمهورية في دولة سلطوية تقدس حكم الفرد والتراتيبية الوظيفية, فواقع الأمر يؤكد أن مصر لم يحكمها خلال ما يقارب نصف قرن سوي مجموعة من محدوي الأفق, وقصة صعود آخر خمسة رؤساء سدة السلطة في مصر تؤيد تلك الحقيقة, وربما يفسر هذا أجواء الجنون والصلف والتعنت وأمارات المرض النفسي الشديد التي حكمت المجال العام طيلة تلك المدة كنتيجة مباشرة لإحساسهم بالضآلة والتهديد الدائم من الداخل, في الوقت الذي يبدون فيه كل استعداد لتقديم تنازلات جسيمة للخارج. ربما لا يبدو هذا منطقيا بعض الشئ, خصوصا مع ميراث طويل من أدبيات قدست هذا المنصب وأحاطته بهالة براقة, وربما لهذا علينا أن نروي التاريخ كما كان, لا كما صورته أبواق السفهاء. صعود السادات ربما كان السادات أبرع من استطاع أن يبقي في الذاكرة الشعبية كما أراد, لا كما كان فعلا, و قد ساعده في ذلك أمران, الأول أنه كان رأس السلطة إبان الإنتصار الوحيد الذي حققته الجيوش العربية علي اسرائيل, والثاني (وفي ظني هو الأهم) أنه إعتمد في إعادة صياغة تاريخه لا علي الشئون المعنوية ولا علي أبواق السلطة التقليدية وحسب, و إنما علي أكتاف تيار عريض له حظوة شعبية وهيمنة إجتماعية بالغة, وهو التيار الإسلامي الذي يدين بالفضل في صعوده مجددا، وفي هيمنته الاجتماعية حتي يومنا هذا للسادات, والإسلاميون في المقابل لم يبخلوا علي السادات بنقل مرويته الخاصة لتاريخه، الذي أعاد كتابته كاملا تقريبا, تلك المروية التي تصوره كثعلب تربص بخصومه وأطاح بهم الواحد تلو الآخر, فصار ضعفه قبل صعوده سدة الحكم جزءا من المكر حتي لا يٌطاح به كغيره, وصار ترديده لشعارات الإشتراكية وقتها تربصا بالشيوعيين، والملاحدة حتي ينال فرصته فيجهز عليهم, حتي تكلل لمحاولاته المخططة بعناية النجاح, فصار الرئيس المؤمن وبطل الحرب وأول من أتي للفلسطينيين بحقوقهم التي رفضوها؛ لأنهم لم يستبصروا المستقبل كما استبصره! تعجب حقا أن تلك الأساطير لها قدر كبير من الشعبية، حين تعلم كيف صعد السادات للسلطة. فالسادات كان حرفيا شخشيخة مجلس قيادة الثورة, و أضعفهم بلا استثناء, غير أن المقادير أبت إلا ان تصعد به, ففي أعقاب النكسة كان قد تم تصفية من تبقي من مجلس قيادة الثورة, و لم يتبق حينها منهم سوي هو وحسين شافعي لأنهم كانوا بلا أنياب ولا نفوذ ولا يخشي منهم أحد, وكان من يحكم البلاد فعليا عصابة سمّاها السادات نفسه عصابة علي صبري. عصابة علي صبري هكذا سماها السادات, و هكذا جري العرف علي تسميتها, و هو ما يدل علي قدرة وبراعة السادات علي قلب الحقائق بل وجعل تلك الحقائق المقلوبة من ثوابت التاريخ, وواقع الأمر أن تلك المجموعة التي حكمت البلاد في أعقاب النكسة كانت تتكون من الفريق محمد فوزي وزير الحربية، والذي كتب في مذكراته عن دوره تفصيليا في التخلص من عبد الحكيم عامر آخر أعضاء مجلس قيادة الثورة ذوي النفوذ, وشعراوي جمعة وزير الداخلية ونائب أمين الاتحاد الإشتراكي وأمين التنظيم الطليعي الذي يتحكم في الاتحاد الإشتراكي, وسامي شرف سكرتير عبد الناصر، والذي عٌين لاحقا وزيرا للدولة لشئون الرئاسة, وعلي صبري أمين الاتحاد الإشتراكي ورجل موسكو الأول في مصر. ومما يدل علي أن تسمية السادات للمجموعة الحاكمة بعصابة علي صبري كانت مضللة أن الثنائي شعراوي جمعة وسامي شرف كانا قد سبق و تآمرا للإطاحة بعلي صبري من منصبه في يوليو 1969, بل ونجحوا في ذلك وقتها فيما سُمّي بحادث المطار, والقصة كما وردت في تحقيقات 1971، وكما نشرتها الأهرام عن الحادث وقتها وفيما بعد، أنه وقبل عودة علي صبري من رحلته للاتحاد السوفيتي في 15 يوليو 1969 كان معه حقائب تزن 2 طن, و هو ما احتاج دفع مصاريف زيادة الوزن لمصر للطيران, فأرسل مصطفي ناجي سكرتير علي صبري برقية إلي الاتحاد الإشتراكي بها تعليمات ليتم دفع المصاريف من الاتحاد الإشتراكي، وتعليمات أخري بشأن لوري لحمل الحقائب من المطار لفيلا علي صبري, ثم وفي اليوم التالي أرسل مصطفي ناجي برقية أخري للاتحاد الإشتراكي بإلغاء تعليمات دفع رسوم الوزن الزائد؛ لأن السوفييت أعدوا طائرة خاصة لنقل علي صبري وطاقمه وحقائبه, واكتفت البرقية بإعادة التنبيه بشأن اللوري. وبالطبع وصلت البرقيتان إلي يد شعراوي جمعة نائب الأمين العام للاتحاد الإشتراكي بحكم منصبه, و الذي بدوره سلمهما لسامي شرف لعرضهما علي عبد الناصر. عندها قرر عبد الناصر وقف علي صبري من منصبه وفتح تحقيق في الواقعة بل واعتقال سكرتير صبري الخاص, وتم تسريب القصة للصحف عبر الأهرام للتمهيد لسحق صبري, ثم أصدرت الرئاسة أمرا بانتداب شعراوي جمعة لشغل منصب الأمين العام للاتحاد الإشتراكي, ثم لاحقا تم انتخابه للمنصب بأغلبية ساحقة, واختفي علي صبري تماما من المشهد لستة أشهر إلي أن ضغطت موسكو لعودته. الأنكي أن السادات صعد للسلطة في ملابسات لا دخل له بها، وبمساعدة علي صبري ذاته بقصد, وهيكل بلا قصد. فقد كانت مشكلة الثنائي المسيطر سامي شرف وشعراوي جمعة أنهم ليسوا من مجلس قيادة الثورة, و كانوا يعلمون أنهم يحتاجون لأحد نواب عبد الناصر (السادات أو شافعي) للحكم, و لم يكن هناك فارق بين الاثنين كما يتصور البعض من أن السادات كان النائب الأول, فلو اختاروا شافعي لما حدث شئ ولمرت الأمور بسلام. لكن علي صبري كان قد قرر أن يراهن على السادات بدلا من شافعي, وهو الأمر الذي كان من الممكن أن يجعل الثنائي الحاكم يذهب للخيار الآخر، لولا تدخل هيكل بتفكير تآمري معتاد بأن أخرج لهم زكريا محي الدين من تحت التراب، ليتصدر صفحات الأهرام وعدسات التلفزيون في جنازة عبد الناصر, عندها قرر الثنائي شرف وجمعة وأد الخلاف في مهده وانحازوا سريعا للسادات خوفا من زكريا. (يُتبع)