مصطلح توازن القوى من أكثر المصطلحات التي لاقت رواجًا هائلًا في مختلف الأزمنة والعصور، لكونه يعبر عن التعادل في القوة بين دولتين أو كتلتين أو حلفين دوليين، أو بين مجموعة دول، أو مجموعة تكتلات، أو عدة أحلاف دولية، بحيث يمنع هذا التوازن قيام أي طرف من استخدام القوة العسكرية أو وسائل التهديد أو الإكراه ضد الأطراف الأخرى، وبذلك يتحقق الاستقرار والسلم المبنيان على القوة؛ لأن توازن القوى يحقق الردع المتبادل، وبالتالي فإن أي نزاع بين قوى متعادلة، لا يمكن أن يمنح أحدهما نصرًا على الآخر، وإنما في الغالب سيؤدي إلى الدمار. ونتيجة لذلك أصبحت القوة منذ آونةٍ بعيدة محور الارتكاز في تحديد مسار العلاقات الدولية؛ لأن صراعات الدول حول القوة هي من أجل الغايات المتأصلة في القيم والمصالح، وعلى إثر ذلك ارتبطت القوة بالوسائل؛ لأنها الطريقة التي يتم بواسطتها تحقيق الغايات، وأصبحت الدول المتنازعة في ظل غياب مجتمع دولي حقيقي، لا تتصرف مع بعضها بعضًا انطلاقًا من معايير قانونية أو أخلاقية، وإنما تتصرف بناءً على ما تمتلكه من إمكانيات ومقومات مادية وعسكرية؛ لأن القوة ليست أداة للتدمير فقط كما يعتقد البعض، بل هي مزيج من القدرة على الإقناع والقدرة على الإكراه. ومفهوم القوة التي تحدث التوازن لا يعني القوة العسكرية فحسب، كما يبدو لأول وهلة، بل يمتد ليشمل مجموع القدرات العسكرية والاقتصادية والسياسية التي يمتلكها كل طرف، والتي ترسخ مفهوم مقومات الدولة المادية والمعنوية، لأن القوة العسكرية في حد ذاتها لا تكفي لخلق حالة من التوازن، لأنها لو وضعت بين أيدٍ ضعيفة وإرادة سياسية غير صارمة، فإن الطرف القوي سيصبح قليل التأثير، ولا يمكن حسابه ضمن موازين القوى، فاليابان مثلًا دولة ذات قدرات عسكرية محدودة مقارنة بغيرها من الدول الكبرى، لكنها تتمتع بتأثير اقتصادي قوي في العلاقات الدولية، وبدون القوة العسكرية يزداد تأثيرها الإقليمي بشكل متسارع، ويقوم على علاقتها الاقتصادية الثنائية وعلى قدراتها في قيادة آسيا والباسيفيكي في مجال التنمية الدولية. وعلى النقيض من توازن القوى نجد اختلال موازين القوى بين طرفين، أحدهما قوي والآخر ضعيف، وفي تلك الحالة لا يملك الأخير إلَّا الإذعان والخضوع لإرادة ومشيئة الطرف القوي. وخير مثال على ذلك المفاوضات الطويلة تمت بين الطرفين الفلسطيني والعدو الصهيوني، والتي لم تحرز أي نتيجة تذكر؛ بسبب افتقار الطرف الأول لعناصر ومقومات القوة التي يمكن أن يجابه بها ممارسة الطرف الآخر لأعمال القتل والتهجير والتطهير العرقي، ويجبره على تنفيذ ما تم الاتفاق عليه، ولهذا فإن السبب الحقيقي الذي يدفع الطرف الصهيوني نحو الامتناع عن تنفيذ ما تم التوصل إليه والاتفاق عليه عبر المفاوضات، هو ذات السبب الذي يجعل الطرف الفلسطيني يقبل التفاوض تارةً أخرى على ما تم الاتفاق عليه مسبقًا، وهو قوة الطرف الأول وضعف الطرف الآخر، وبمعنى آخر انعدام التكافؤ في موازين القوى بين الطرفين. وفي ظل هذا التوازن المختل تصب التسوية السلمية في مصلحة الطرف الصهيوني القوي، الذي يحرص على الإبقاء على مثل هذه التسويات الناقصة، التي تحقق له أغراضه الكاملة على حساب الأغراض العادلة للطرف الضعيف، ونود التنويه إلى أنه لا يشترط في ميزان القوى التعادل التام في امتلاك مقومات القوة، وإنما التكافؤ البسيط أو النسبي يكفي لإضفاء وصف التوازن بين طرفين، فقد يكون ميزان القوى مائلًا لصالح طرف على حساب الطرف الآخر، ومع ذلك تظل فكرة التوازن قائمة، غاية ما في الأمر أن يتم كبح جماح أي قوة تنطلق من عقالها وتفقد حيادها، عن طريق اصطدامها بالقوة المضادة التي تجبرها على التوقف ثم الارتداد. وبالتالي فإن اللحظات التي يتم فيها التوصل لاتفاق لإنهاء النزاع أو لوقف القتال بين الأطراف المتنازعة، في ظل وجود توازن القوى، يأتي في اللحظات التي يدرك فيها كل طرف خطأ حساباته وسوء توقعاته، وشعوره بعدم قدرته الفعلية على حسم النزاع بالأدوات القسرية، لعدم قدرة إحدى القوتين على أن تسود بصورة مطلقة أو أن تفرض قوانينها على القوة الأخرى، وخير مثال على ذلك الأزمة الدولية التي حدثت بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد السوفيتي، والتي عرفت بأزمة الصواريخ الكوبية، إذ تعد هذه الأزمة من أخطر الأزمات الدولية على الإطلاق، لأنها جعلت العالم على مشارف حرب نووية مدمرة، ولكن في النهاية تم احتواء هذه الأزمة نتيجة لحسن تصرف كلا الطرفين، وإدراكهما العواقب الوخيمة التي يمكن أن تنجم عن استخدام القوة، ونتيجة لوجود تكافؤ في موازين القوى تم إنهاء الأزمة ونفذ الطرفان ما اتفقا عليه.