لم يكن اهتمام الفلاسفة المسلمين بالإرادة كافيًا ولا صريحًا ضمن مؤلفاتهم، حتى جاء ابن باجة والفارابي، فخصصا للإرادة مساحة كبيرة بكتاباتهم. تساءل الفارابي عن الإرادة والاختيار والفرق بينهما، كما ميز بين السعادة والشقاء، فلما كانت الأفعال الحسنة فضائل، والقبيحة رذائل، استنتج أن الإنسان يصير إلى أيهما بإرادته، فاعتبر الإرادة ملكة حاصلة عن الحكمة، ثم فرق بين الإرادة والاختيار، فقال في كتابه"آراء اهل المدينة الفاضلة":"النزوع إلى ما ادركه سمي بالاسم العام وهو الإرادة، وإن كان ذلك عن روية أو عن نطق في الجملة سمي الاختيار". ما يقصده الفارابي هنا أن الإرادة أن تنزع بالقوة إلى ما أدركت، أما الاختيار ففيه شيء من التمهل وهو أن تتشوق بالنزوعية وتستنبط بالقوة المروية ما ينبغي أن تعمل. ثم يشير الفارابي إلى أن هناك أفعال إرادية شريرة مثل: الرذائل والنقائص والخسائس، وهناك أخرى خيرة. هكذا يربط الإرادة والاختيار بالأساس النفسي للفعل الأخلاقي، ويرى أن الإرادة قائمة على نوع من الإحساس والتخيل في حين الاختيار صادر عن النطق والروية. وإذا ما سرنا في أعماق كتابه "أهل المدينة" نراه يعول على الوصل بين الإرادة والشوق، ثم يقسم الإرادة إلى ثلاثة أقسام، الأول: شوق عن إحساس، والثاني: شوق عن تخيل، والثالث: شوق عن نطق، فيقول:"إن الإرادة شوق عن إحساس، ثم يحدث بعد ذلك الجزء المتخيل عن النفس والشوق التابع له، فتحصل إرادة ثانية بعد الأولى، فيحدث حينئذ في الإنسان نوع من الإرادة ثالث هو شوق عن نطق، وهذا هو المخصوص باسم الاختيار" ثم اشار الفارابي إلى أن كل اختيار إرادة وليس كل إرادة أختيارا. ولكن لما كانت الإرادة في حقيقتها لا تخلو من التفكير والوعي اعتمادا على العقل، أي أنها لا تقوم على الرغبة والنزوع فحسب، بل تقوم أيضا على التفكير والوعي المستقل. وأكد الفارابي على أن الإرادة والاختيار مزيتين انسانيتين، وإنهما بعيدان كل البعد عن اتيان الشرور والرذيلة والقبيح من الفعل، ثم ميز بين الانفعالات والهيئات والملكات الراسخة في النفس والأفعال الإرادية، فقال:"إن الأفعال الإرادية التي تنفع في بلوغ السعادة هي الأفعال الجميلة"؛ لكن ابن باجه أخذ عليه أنه قال باشتراك الإنسان والحيوان في الإرادة، وافتراضه وجود فعل إرادي في غياب ملكة النطق والعقل، فالإنسان يفعل بإرادته المحمود والمذموم والحسن والقبيح. اختلف ابن باجة وابن رشد مع الفارابي لعدم فصله بين مجال النفس عند الحيوان عن مثيلتها عند الإنسان. فقد عمم الفارابي مبدأ الإرادة دون الفصل أو التمييز بين الإنسان والحيوان، بينما قرر ابن باجة وابن رشد ضرورة الفصل بينهما، فأشارا إلى أن مبدأ الإرادة عند الحيوان هو الحس، بينما عند الإنسان يتجاوز ذلك؛ إذ إنه مبدأ عقلي، فابن باجة يتحول بالإرادة من معناها العام الذي يضم الإنسان والحيوان، إلى معنى خاص بالإنسان فقط من حيث هو المالك للعقل، فيرى أن الإرادة تنتشل الحركة من غريزتها الحيوانية، لتضفي عليها صفتها العقلية ثم توجههابعد ذلك. ويعزز ابن باجة تفرده في تلك النقطة حينما قال:"ليس المقصود بالمحرك الأول، إذن، شيئا آخر غير مبدأ الإرادة ذاته". يريد ابن باجة توضيح أن أمر الإرادة يتعلق بالأنا بمعنى أن الإرادة في عمقها هي الأنا. وهذا الكلام يجعل لابن باجة السبق، فهو -على ما يبدو- قول يفترض الإرادة ويستدعيها بخاصّة مع ابن باجة الذي جعل منه موضوعًا قائمًا بذاته لا يتقدّم فقط بوصفه دليلاً على وجود المحرّك الأوّل، وإنّما يتقدّم، أيضًا، بوصفه ما يقام عليه الدليل من فرط طابعه الإشكالي وتشابك الأسئلة التي يطرحها. أما في الفلسفة الغربية فيأتي شوبنهاور كأول فيلسوف غربي يركز على فكرة الإرادة لا على العقل كما عهدنا ذلك من الفلاسفة الغربيين قبله، ويرى شوبنهاور أنه لكي نصل إلى ماهية الأشياء ألَّا نبدأ من الخارج؛ ولكن نبدأ من الفرد الذي هو وحدة الأساس، والذي يعد وحده الوجود الحقيقي. وفيما يخص نظرية المعرفة، يتساءل شوبنهاور، هل المعرفة موجودة فعلا في الأشياء أم أن ذواتنا هي التي تنتج هذه المعرفة وفق رؤاها الخاصة، يوضح الفيلسوف الألماني أن الذات تعجز بمفردها عن إنتاج معرفة عن الأشياء، وكذلك الأشياء لا يمكن أن تشكل معرفة دون الذات العارفة، وهذا هو التمثيل، التقاء بين الذات والشيء، ومن هذا الإلتقاء تأتي المعرفة. وبذلك تختلف الإرادة عند شوبنهاور عن المعنى المألوف فليست هى التي تقود للعمل والإنجاز، ولكنها الرغبات والشهوات والمطالب الغريزية التي تحرك الإنسان بدون وعي منه، فهذه هي المحرك الرئيس لأكثر البشر وهذا ما يفسر الصراعات بين الناس، فإرادة الجنس والمال والسلطان والطعام، هي التي تتحكم في تصرفات الناس وليس العقل كما يتوقع لبعض. والذي يستطيع التخلص من هذه الإرادة هو الفنان لحظة إبداعه أو الزاهد عند سمو روحانياته. فالإرادة إذن في نظر شوبنهاور هي سبب معاناة الإنسان، ويدلل على ذلك من خلال أعضاءنا المرتبطة بالإرادة فهي الأكثر عرضة للتعب، أما الإعضاء غير الإرادية فلا تشعر بالإجهاد.