صلوات، ترتيل المزامير، ولائم ضخمة، إفراط في شرب ماء الحياة، إشعال نيران الفرح.. هكذا يقدس اليهودي مزاراته الدينية، هكذا يتعامل مع مقامات من اتخذهم أولياء وتبارك بهم، لدرجة جعلته يرتبط كذلك بكل ما يحيط أضرحة الأولياء، من أشجار وأحجار وينابيع ومغارات، فتجده يشعل الشموع فوق الأحجار والصخور المحيطة به، ويغتسل بمياه العيون والوديان المتواجدة بجانبه، ويعلق الملابس الداخلية وقطع من الثوب على الأشجار المجاورة له.. رغم ذلك يهدم المساجد والمقامات الإسلامية، لعلها عقيدة جديدة تجمع بين الصلاة والقتل في مشهد واحد.. إنها عقيدة المحتل المتدين.. سنقول –ليس لأننا نتذكر نكبتنا اليوم- لم يكتف المحتل الصهيوني بقتل أصحاب الأرض، لأنه دمَّر آثارهم التاريخية الدينية، استهدف الحجر والشجر والإنسان والمساجد والأضرحة، نتذكر بداية العام الجاري حين وصف وزير الأوقاف الفلسطيني، يوسف ادعيس، عام 2014 بأنه الأسوأ في مستوى الانتهاكات، التي استهدفت المقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين، إذ بلغت الاعتداءات الإسرائيلية في العام الماضي 1345 اعتداء، توزعت بين اقتحام للمسجد الأقصى، وانتهاك لحرمته، وإعلان مخططات تهويدية، وتنفيذ قسم منها، بالإضافة إلى اقتحام المسجد الإبراهيمي، ومنع رفع الآذان على مآذنه، فضلًا عن هدم مساجد، وحرق أخرى، واقتحام قبر النبي يوسف، والاعتداء على المرابطات والأراضي الوقفية والمقدسات والمقابر. وقتها قال "ادعيس" إن الانتهاكات تدل بشكل كبير على "الاضطهاد الديني" الذي يمارسه الاحتلال الإسرائيلي تجاه أتباع الديانتين الإسلامية والمسيحية "ليترك المجال أمام مستوطنيه المتطرفين الذين يعيثون بالمقدسات والهوية الحضارية الفلسطينية". اليهود منذ أن قاتلونا أعملوا تغييرًا في معظم المساجد والأوقاف الفلسطينية، لاسيما في المدن والقرى التي اضطر أهلها للهجرة منها، والتي احتلها اليهود وطردوا المسلمين والمسيحيين منها، وحولوا قسمًا كبيرا منها إلى نوادٍ وملاهٍ، وبعضها نسفوها وبعضها حولوها إلى كنس يهودية، وعلى سبيل المثال لا الحصر مسجد سيدنا عكاشة والقبة القيمرية ومسجد الشيخ رسلان ومسجد صفد وطبريا وعسقلان وطيرة بني صعب وإجزم وإقرن وكفر يرعم وغيرها كثير. وأول ما بدأوا الاعتداء عليه من هذه الأماكن المقدسة حائط البراق ومسجد البراق، وأطلقوا عليه اسم حائط المبكى، وشجع الإنجليز اليهود للاعتداء عليه، فقامت من أجله ثورة البراق انتهت بتشكيل لجنة للتحقيق في ذلك، وقررت أنه وقف للمسلمين، وذهب تقريرها مع الريح، وحين احتل اليهود القدس سنة 1967، أزالوا حارة المغاربة كليًا بأبنيتها ومساجدها وزواياها وحولوها إلى ساحة عامة لليهود. اعتدوا على المسجد الشهير في عكا "جامع الجزار" وملحقاته من الأوقاف والمدرسة الدينية، وشلوا حركة التدريس فيه وأصبح معلمًا سياحيا لا حياة فيه للعبادة، كما اعتدوا على مسجد يافا الكبير "مسجد حسن"، وأرادوا أن يحولوه إلى ملهى ومعلم سياحي فتحركت البقية الباقية من مسلمي يافا الذين ثبتوا في مكانهم سنة 1948، يوم أقرت هيئة الأمم قرارها الجائر بتقسيم فلسطين وقيام دولة إسرائيل، وشكلوا دائرة أوقاف في وجه حكومة اسرائيل واتخذوا جميع الإجراءات القانونية، واستطاعوا أن يحولوا بين اليهود وبين استمرار العدوان على مسجد يافا، وبقي مكانًا مقدسًا للعبادة. ومن الأماكن الإسلامية البارزة التي اعتدى عليها اليهود عدوانا سافرا "المسجد الإبراهيمي"، وهو المسجد الذي فيه قبور لسيدنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام وزوجاتهم، وقد اهتم المسلمون بالمحافظة على هذه الرموز، وجددوا البنيان الذي بناه "هيرودس"، ووسَّعوه وجعلوه مسجدًا يعبد فيه الله وتقام فيه الصلوات، وبنى الأمويون القباب فوق القبور والمآذن كما بنوا صحن المسجد المكشوف، وزاد فيه العباسيون ومن بعدهم، فأقاموا فيه الرباطات والزوايا، وجدده صلاح الدين الأيوبي. عندما احتل اليهود الخليل سنة 1967، استولوا على المسجد وحولوه إلى كنيس ومنعوا المسلمين من الصلاة فيه وحصروهم في جزء صغير منه، وصاروا يقيمون فيه حفلات الرقص والغناء ويختنون الأولاد ويشربون الخمور ويأكلون ويشربون ويرمون الفضلات في المكان المخصص لصلاة المسلمين، وسرقوا ما في المسجد من تحف، فضلاً عن العبث بمغارة "مكفيا" وما فيها، ونُسف الدرج المؤدي إلى باب الناصر قلاوون، وهدم البئر التي يتوضأ منها المسلمون، كما أدخلوا الكلاب إليها، وباستمرار كانوا يشوشون على المسلمين في صلاتهم ويمنعونهم من الصلاة فيه، ثم صاروا يستعملون المسجد كله ووضعوا فيه الكراسي والأثاث والشمعدنات ومزقوا المصاحف وفعلوا كل ما هو منكر في المسجد، ولا ننسى اعتداءهم على المصلين في الحرم الإبراهيمي وقتل وجرح المئات من المصلين. قضوا على مقدسات مدينة القدس منذ سنة 1948، بخاصة ما يتعلق بمقبرة "مأمن اللّه" الشهيرة بمقبرة "ماملا"، وما فيها من مصلى، وعفي على مقابر المسلمين وعلى مسجد البقعة وكل المقدسات خارج السور القديم، أما داخل القدس القديمة فقد هدمت المساجد والمصليات والزوايا والتكايا وصُودرت أراض بلغت 170 دونمًا من أحياء الشرف والمغاربة والسلسلة والميدان والسعدية، فلم يبق منها عامر إلا مسجد سيدنا "عمر" بجانب كنيسة القيامة ومسجد الشيخ جراح المهجور والمسجد الأقصى. المسجد الأقصى صاحب النصيب الأوفر من هذه الاعتداءات، والتي بلغت حتى كتابة أكثر من 150 اعتداءً، ثم الحرب على بقية مساجد فلسطين بكل الوسائل الهمجية والدنيئة، والتي تمثلت في تدنيس المساجد، وهدمها لصالح المستوطنين، ومنذ بدء العدوان عام 48 هدمت سلطات الاحتلال أكثر من 1200 مسجد في أراضي الداخل الفلسطيني. أما مقام النبي داود -القائم على تلة صهيون- في منطقة باب الخليل خارج أسوار المدينة فما يزال يتعرض لعملية تهويد ممنهجة، إذ حوله الاحتلال لكنيس يهودي، وهو الذي يتكون من ثلاثة أجزاء: أولها مسجد النبي داود عليه السلام وقد حوله الاحتلال لكنيس يقيم اليهود داخله صلواتهم رغم مئذنته ومحرابه والكتابات الإسلامية المنحوتة على لوحات رخامية بداخله وعلى واجهته. وفي الجزء الثاني من المقام توجد كنيسة الخضر الملاصقة للأرمن الذين يعتقدون أنها احتضنت ما يعرف لدى المسيحيين ب"العشاء الرباني الأخير"، وبات يسيطر عليها المستوطنون، لكن كتابات وآثارا إسلامية ما زالت تزيّن جدرانها. أما القسم الثالث فهو عقار لعائلة الدجاني استخدمته كمساكن ومقبرة طيلة قرون، وحتى الآن تقوم جمعية رعاية المقابر الإسلامية برعايته وصيانة القبور التي ترقد فيها شخصيات مقدسية وعدد من جنود صلاح الدين الأيوبي. في السنوات الأخيرة تكررت حوادث اعتداءات على الأضرحة والمساجد الإسلامية، في العام 2011 الاعتداء على مقام النبي لوط عليه السلام، في الخليل، نتج عنه هدم جزء كبير من المقام, الموجود داخل غرفة بالمسجد وكان قديمًا قلعة رومانية تم ترميمها بزمن المماليك لتصبح مسجدًا، وفي نفس العام دمر الاحتلال أجزاء كبيرة من مقام الصحابي أبو عبيدة بن الجراح، وتدمير شواهد قبور أخرى في قرية عمواس حفيظة اهالي قرية عمواس. وفي 2012، اقتحم نحو 1200 متطرف صهيوني قبر النبي يوسف في نابلس، وأقاموا فيه الصلاة، وقالت وقتها مصادر فلسطينية إن نحو عشر حافلات أقلت مستوطنين وصلت إلى منطقة قبر يوسف تحت حراسة مشددة من قوات جيش الاحتلال، قام خلالها المستوطنون بأداء الصلوات والشعائر الدينية في المكان، مشيرة إلى أنه تم ترتيب الاقتحام بين جيش الاحتلال والمتطرفين. العدوان الأخير على غزة، شهد نهاية عدد كبير من المساجد والأضرحة، كمسجد «المحكمة»، الذي يعتبر معلماً إسلامياً قديماً يعود تأسيسه إلى فترة الحكم المملوكي لفلسطين عام 859 هجري المواقع 1455 ميلادية. غاب مسجد المحكمة بعد ستة قرون بقي فيها شاهداً على أرض غزة ونضال أهلها، متربعاً على مشارف حي الشجاعية شرق مدينة غزة، والذي استخدم كمدرسة عرفت قديماً باسم مدرسة (الأمير بردبك الدوادار)، ومن ثم أصبح مقرا للمحكمة الشرعية الدينية في الفترة العثمانية، غير أن مئذنته الرئيسة ما زالت شامخة لم تسقط، فهي أكثر ما يضيف جمالاً على المسجد رغم تقادم السنين عليها، وإن بدا تأثير القصف المباشر عليها واضحاً في بعض الأجزاء، تلك المئذنة الواقعة إلى الجزء الغربي من المسجد والتي يبلغ طولها 19 متراً والتي صدحت بالآذان على مدار 600 عام، ظل خلالها المسجد عامراً بالمصلين قبل أن يحيله العدوان «الإسرائيلي» إلى أكوام متناثرة من الحطام، بقيت المئذنة صامدة رغم الدمار. ومن المقامات التي دمرها الاحتلال خلال عدوانه الأخير على غزة، مقام «الشيخ المنطار» الذي يقع ضريحه على رأس تله تشرف على خربة المنطار، الواقعة على الحدود مع الأراضي المحتلة العام 1948 إلى الشرق من مدينة غزة، والذي غابت ملامحه ولم يتم التعرف على مكانه بعد انسحاب الآليات «الإسرائيلية» التي كانت متوغلة في المنطقة أثناء الحرب على غزة، حيث تعمد جيشاالاحتلال القضاء على كل معالم المكان، فقد هدم البيوت وجرف الأراضي الزراعية وخرب الطرق وحتى استهدافه للاماكن الأثرية. كما تسبب القصف بأضرار في الأرضية الفسيفسائية وفي جدران مقام إبراهيم الخليل الواقع داخل مسجد «خليل الرحمن» بمنطقة عبسان في محافظة خان يونس جنوب قطاع غزة، إضافة إلى مقام الخضر الذي يعود للعصر اليوناني في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، والمسجد العمري في جباليا، ومسجد «الظفردمري» المملوكي الذي يعد أحد أبرز المعالم الأثرية الإسلامية في حي الشجاعية، شرق مدينة غزة. وفي قائمة أعدها الدكتور عبد الحليم عويس منذ سنوات، أشار إلى عدد كبير من المساجد والمقامات المحولة إلى غير أهدافها، ومرجعه جمعية الأقصى لرعاية الأوقاف الإسلامية داخل مناطق فلسطينالمحتلة سنة 1948، وهي على النحو التالي: مسجد البصة (حظيرة خراف)، مسجد الزيت (مخزن للأدوات الزراعية لمتنزه أخزيف)، مسجد عين الزيتون (حظيرة للأبقار)، المسجد الأحمر (ملتقى للفنانين)، مسجد السوق (معرض تماثيل وصور)، مسجد القلعة (مكاتب لبلدية صفد)، مسجد الخالصة (متحف بلدي)، مسجد الدار البيضاء (مكاتب)، مسجد البرج (مكاتب لشؤون الطلبة الجامعيين)، مسجد عين حوض (مطعم وخمارة)، المسجد القديم في قيساريا (مكتب لمهندسي شركة التطوير). المسجد الجديد في قيساريا (مطعم وخمارة)، مسجد الحمة (مخزن للمطعم القريب ويخزن فيه الخمور ومعدات المطعم)، مسجد السكسك (الطابق الأرضي محول إلى مصنع بلاستيك أما الطابق العلوي فهو محول إلى مقهى للعب القمار)، مسجد مجدل عسقلان (متحف وجزء منه محول إلى خمارة). مسجد المالحة (اقتطع أحد اليهود جزء منه لبيته ويستعمل سقف المسجد لإحياء السهرات الليلية للجيران)، المسجد الكبير (مهمل وكان قد حول إلى متحف)، المسجد الصغير (محول إلى دكان ليهودي). وتضمن التقرير مساجد ومقامات تحولت إلى كنس ومعابد لليهود، منها: مسجد مقام يعقوب، مقام ياقوق، مقام الست سكينة في طبرية، مقام الشيخ دانيال، مسجد العفولة، مسجد كفريتا، مسجد طيرة الكرمل، مقام الشيخ شحادة، مقام سمعان، مقام النبي يامين، مقام علي، مقام أبي هريرة في يبنى، مسجد النبي روبين، مقام الشيخ الغرباوي، مسجد وادي حنين. وآخر ما جاء في التقرير أسماء مساجد مغلقة ومهملة ومهدومة، ومنها: مسجد أم الفرج- قضاء عكا- (بن عامي) هدم في تاريخ 4/12/1997م، مسجد وادي الحوارث- قضاء طولكرم- (قرب الخضيرة) هدم على يد بعض اليهود في 3/2/2000م، مسجد الشيخ نعمة- صفد- هدم المسجد وبقيت المئذنة، مقام الخضر- البصة- شلومي- مهمل، المسجد الزيداني في طبريا- مغلق ومهمل، مسجد البحر في طبريا- مغلق ومهمل، قامت بلدية طبريا بترميمه بهدف تحويله إلى متحف، وقام يهودي بحرقه في يوم 6/2/2000م، ثم قامت البلدية في 24/2/2000م بإغلاقه ومنع المسلمين الاقتراب، مسجد حطين– قضاء طبرية- (كفار زيتيم) أغلق عدة مرات على يد دائرة أراضي الاحتلال، مسجد عمقة – مستوطنة عمقة- مغلق ومهمل وهو آيل للانهيار، مقام الشيخ محمد كويكات- بيت هعيمق- مهمل، مقام النبي يوشع- (متسودات يشع)- قضاء صفد، مهمل. نضع أمام أعيننا كل هذا التاريخ الضائع ونحن نتذكر النكبة، لو وضعنا كل هذا أمام أعيننا لتاكدنا أن نكبتنا لم تنته لنتذكرها.. نكبتنا مستمرة..