قديمًا قالوا (الحرية مسؤلية).. تعبير بسيط يلخص المعنى الحقيقى والواقعى للحرية، ذلك المفهوم الذى اختلط فهمه عند الكثيرين واختلفوا بشأنه كثيرًا، وهو الغاية التى قامت من أجلها غالبية الثورات والحروب على أكتاف المظلومين والمقهورين الفاقدين لحرياتهم عبر التاريخ.. الكل يبحث ويسعى للحرية، ولكن هل ندرك حقيقةً معنى الحرية، هل تسائلنا لم نبحث عنها ولأى سبب؟ أدرك الإنسان مفهوم الحرية عندما أدرك ذاته منذ فجر التاريخ، عندما اكتشف فى نفسه القدرة على الاختيار ثم الفعل بناء على ذلك الاختيار، فأدرك أنه له ارادة حرة تملى عليه ما يجب أن يفعله وما لا يجب أن يفعله، وكل إنسان منا إذا تأمل فى نفسه وجد فيها تلك القدرة على التردد بين الفعل والترك، إننا نعيش حياتنا وفى كل لحظة نعيشها وكل خطوة نخطوها وأمام كل حدث صغير أو كبير نحن أمام اختبار؛ أن نفعل أو لا نفعل. يلخص الفلاسفة والمفكرون تفسير الوجود الإنسانى فى أنه كائن عاقل مختار يتكامل بأفعاله الاختيارية، هكذا عندما أرادت المشيئة الالهية العليا أن تخلق الإنسان خلقته فى هذه المرتبة التى يقتضيها وجوده بكونه لديه قدرة على الاختيار بين الشىء ونقيضه، تلك المرتبة الوجودية هى ما تطلبت بالضرورة أن يملك الإنسان قوة نفسية عاقلة، تمكنه من الادراك والتمييز، فبعد أن يعقل ويميز ويدرك فله أن يختار بين أن يفعل الشئ أو لا، وهذا هو ما يميز مرتبة وجود الإنسان عن الحيوان وعن الملائكة التى لا يملك أحدهما أى قدرة على الاختيار فكلاهما مجبور على ما يفعل. وهذا الاختيار هو ما يتطلب الحرية فبدون الحرية لا يصبح هناك مجال للاختيار بل يصبح المعنى الإنسانى عبثًا، هكذا فطن الإنسان الى حقيقة نفسه التى خلق عليها، وهكذا سعى دائمًا الى نيل حريته رافضًا كل محاولات القهر والظلم والاستبداد وفرض القيود التى من شأنها أن تكبلها. ولأن ذلك هو قانون الخلقة التى فطر عليها الإنسان أصبحت الحرية هدفًا ساميًا وغاليًا يسعى اليه كل فرد ويرفض معه الظلم الذى يعاند فطرته، ولا عجب أن أتت معظم الأديان الالهية بالحث على تكريم الإنسان وازالة موانع الظلم والقيود الجبرية على نفسه وعقله وفكره وطالبت هذا الإنسان دائمًا بالسعى نحو الحرية، ولكن على الجانب الآخر آن لنا أن ندرك أن تلك الحرية وإن كانت هدفًا لكنها ليست الغاية النهائية، فالإنسان لا يسعى للحرية لأجل الحرية وفقط بل يسعى لها لتتوفر له القدرة على الاختيار بدون ضغوط حتى يصبح مالكًا لكافة قراره، بمعنى آخر يصبح مسؤلأ مسؤلية كاملة عن ما يفعل.. يفعل ماذا؟ ويختار أى الأشياء؟ هنا يكمن أصل السؤال. تطالعنا اليوم الكثير من الدعوات التى تتبنى الحريات المطلقة وخاصة حرية المرأة فى أن تخلع الحجاب أو ترتدى ما شاءت من الملابس الكاشفة عن جسدها.. مفاهيم تتبنى قيمة الحرية بأنها هى الغاية، وأن مفهومها أن يفعل الإنسان ما شاء وكيف شاء وقتما شاء بدون وجود قيود مجتمعية عليه من أى نوع وبدون فرض وصاية من الآخرين على ما يفعله، اللهم ما كان يؤدى الى ضرر أو أذى يقع على غيره، وفى ذلك هو الوحيد المنوط بتقييم هذا الأذى والضرر. وأمام هذا التفسير نحتاج الى أن نقف كثيرًا.. فمن يحدد النفع والضرر؟ وهل حقًا لا يؤثر السلوك الفردى الخاطئ على غيره ؟ وأنه لا توجد علاقة بين الحرية الشخصية والمصلحة المجتمعية ؟ إن دوافع الفعل عند الإنسان كما خلص اليها المفكرون والعلماء هى اثنتان، اما دوافع الشهوة والغضب أو دوافع العقل، فعلى سبيل المثال قد يفرط إنسان فى تناول الطعام بشراهة للدرجة التى قد يصاب فيها بالأمراض ، وإنسان آخر يحثه عقله على الاكتفاء بما يقيم أوده ويسد حاجته ، الأول خضع لقيود الشهوة والثانى خضع لقيود العقل الحكيم المدرك الذى استطاع أن يميز بين ما يسبب له النفع والضرر فاختار بحكمته ما كان فيه نفعه ومصلحته الحقيقية وكماله. هكذا لا وجود للحرية المطلقة، فمن يظن أنه قد تحرر من قيود العقل التى تقيد سلوكياته وأفعاله فهو بالضرورة خاضع لقيود نفسه وشهواته، ومن يتحرر من قيود شهواته فحتمًا قد سلًم نفسه لقيد عقله، ومن يظن أنه تحرر من أسر القيود المجتمعية فبالضرورة سيجد نفسه يقع أسيرًا لقيود أهوائه الفردية والعكس بالعكس، إذن لا حرية الا وقد أخضعت الإنسان لقيد من نوع آخر، من هنا كانت الحرية الحقيقية هى فى اختيار القيد السليم الذى يحقق للإنسان نفعه وكماله أو كما يقال أن حريتى تعنى ألا أقوم بعمل سئ حين يبرهن لى فكرى أنه سىء حتمًا[1]، وكما يقول سقراط: (إن الحرية الحقيقية ليست قدرة التردد بين اختيار الشئ ونقيضه بل هى الإرادة التى استعانت بالمعرفة واختارت الحق)، هى الحرية المسؤلة التى تعنى اختيار عدم الوقوع فى الخطأ. إن التمييز وسيلته العقل الذى مُنحَه الإنسان ليتفق مع طبيعته الاختيارية، هذا العقل يحتاج الى المعرفة بمعنى الصلاح والنفع الحقيقى ومعنى الضرر الحقيقى، ولما كان النفع هو ما كان يؤدى الى تكامل الإنسان ورقيه والضرر هو ما ساعد على تسافله وانحطاطه، ولما كانت الغاية فى تربية هذا الإنسان على الفضائل تحتاج بعد الاستدلال على طريقها الى ممارستها، إذن يصبح واقعًا على كل إنسان أن يتعلم من جهة العلم الذى يمكنه من تشخيص النفع والضرر ثم أن يسعى لتطبيقه من جهة أخرى. أما العلم، فذلك لن يتمكن الإنسان وحده من صياغته ولكنه بعقله يستطيع أن يستدل عليه، فكما يحيط الصانع علماً تامًا بمصنوعه ويعرف كيفية ادارته وما يحافظ عليه من الضرر والتلف، يحيط الخالق تمام العلم بخلقه وهو من يعلم ما يحقق النفع لهم وما يؤدى الى ضررهم وفسادهم، هكذا يصيغ العقل استدلالا منطقيا يعزو من خلاله أسباب النفع والضرر الى ما وجهه اليه ذلك الخالق وما أمره به ونهاه عنه، والعاقل من يدفعه عقله الى أن يختار بارادته ذلك الطريق القويم لهداية نفسه. وأما التطبيق، فلأن الإنسان كائن اجتماعى لا يعيش منفردًا ولا منعزلًا أصبحت البيئة الخارجية لها دور كبير فى التأثير على الفرد وتعزيز دوافع الشهوة عنده أو دوافع العقل والحكمة، ومع التسليم بأن البيئة ليست هى العلة الوحيدة فى تحديد مصير الإنسان حيث تبقى ارادته هى المعول الأول والأخير، الا أن لها تأثيرًا هاما خاصة فى المراحل الأولى من عمر الإنسان ، ذلك الوقت الذى لم تكتمل فيه المدارك العقلية للطفل بشكل كامل حيث تصبح له القدرة المطلقة على التمييز بين الصواب والخطأ وبالتالى تحمل مسؤلية أفعاله، فى هذه المرحلة هو وعاء لاكتساب السلوك بدون أن يمر على فلتر العقل، تعالوا نتخيل طفلًا ينشأ فى بيئة فاضلة وأخرى فى بيئة فاسدة، لا ريب أن كلاهما سيتأثر بمحيطه، وكل أب وأم يعلم فى قراره نفسه كيف سيكون تأثير أصدقاء السوء على أبنائه وكيف يجتهدون لخلق بيئة سليمة كريمة لنشأة أطفالهم، لذلك كان من أبسط وأهم قواعد التربية التى ينصح بها كل العلماء المتخصصون هى من خلال المحاكاة أو التقليد والقدوة، وأصبح الإنسان صغيرًا كان أو كبيرًا يحتاج الى البيئة المعدة والخصبة التى تعينه على تطبيق السلوك الفاضل والالتزام به، تمامًا مثل البذرة التى تحتاج للأرضية الخصبة المغذية الصالحة لها لتنمو ولو زرعت فى غيرها لماتت. من أجل ذلك كانت البيئة الاخلاقية والاجتماعية فى حياة الإنسان أحد أهم العوامل المساعدة فى صلاحه أو فساده، والجو الاجتماعى له تأثير غير مباشر إذ أنه يؤثر على الجو الروحى الذى يعيق بفساده نمو الأفكار السامية ولذلك اهتمت الأديان على سبيل المثال اهتمامًا شديدًا بإصلاح الجانب الاجتماعى، ولذلك أيضًا نجد الأيادى المأجورة التى تسعى لانتزاع الفكر الراقى من الأمة تسعى إلى تهيئة الأرضية للفساد الاجتماعى والعملى بكل الطرق. وهذا المعنى لا يأتى فى المفاهيم الدينية فقط بل فى كل مفهوم مقدس وإن لم يكن دينيًا، فالشرف والشهامة والشجاعة لا تنمو عند كل أحد، وأيضًا العزة والحرية وطلب العدالة وحب البشرية إذ أنها تسير فى الإنسان الشهوانى نحو الاضمحلال على العكس من الإنسان المضحى التى تتنامى فيه. من هنا نجد المجتمعات التى تميل نحو الشهوات تموت فيها السجايا الإنسانية وهو السبب الأصيل فى انهيار المجتمعات. عندما تطل علينا اليوم فى مجتمعاتنا الدعوات التى تمجد من قيمة الحرية الشخصية وتعلى منها على حساب المصلحة المجتمعية وتنظر الى القيم الدينية على أنها قيود تحد من حرية الشخص الفردية وتكبل ارادته، فيجب معرفة أن بواعث تلك الدعوات لا تنم الا عن جهل فى أدنى الاحوال ان لم تكن عن غرض خبيث يتخفى وراءها يهدف الى تفشى الفساد ويسعى الى هدم المجتمع، فعندما يدعو الدين الى حجاب الفتاة والى غض البصر على سبيل المثال فذلك لأنه دين واقعى يعلم أن تهيئة المناخ السليم داخل المجتمع هو خطوة ضرورية لصلاح الفرد، فالإنسان يتأثر بمظاهر العفة كما يتأثر بمظاهر الفساد والخلاعة. وعليه فمن يختار حرية الهوى ويفضل قيمة الحرية الشخصية فعليه قبل أن يدعو لذلك أن يدعو للانعزال وأن يعيش كل فرد فى جزيرة منعزلة، وقتها فقط يمكن أن يفعل ما يحلو له وأن يدعى أن سلوكه لا يضر الآخرين، وربما وقتها يمكن أن يتحمل وزر أفعاله فقط بدون أن يضاف اليها أوزار من أساء لهم بأفعاله، يقول عز من قال (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ )