الشعبة تكشف حقيقة فرض ضريبة جديدة على الذهب    اليوم، قطع الكهرباء عن قرى عين عيش ومرزوق ببلاط في الوادي الجديد    شعبة المخابز تحدد موعد ارتفاع أسعار الخبز السياحي (فيديو)    موعد بداية فصل الشتاء 2024.. وتوقيت فتح وغلق المحلات قبل تطبيق التوقيت الشتوي    عاجل - زيادة منحة المرأة الماكثة في البيت بالجزائر 2024 وخطوات التقديم عبر موقع الوكالة الوطنية للتشغيل    الحمصاني: لن نتخلى عن المواطن.. ونطبق الحماية الاجتماعية من خلال ضبط الأسعار    اعتقال ليبي في ألمانيا بشبهة التخطيط لمهاجمة السفارة الإسرائيلية    أخطر رسالة ل نتنياهو .. استهداف منزله المحصن | ماذا يحدث؟    الشرطة الألمانية تستخدم الكلاب لتفريق متظاهرين منددين بجرائم الاحتلال    فلسطين.. 5 إصابات في قصف الاحتلال لخيمة تؤوي نازحين في دير البلح    وزير الدفاع الإيطالي يكشف عن توقعاته بشأن أهداف حروب المستقبل    فتح: غزة تتعرض إلى مجزرة حقيقية بسبب عدم معاقبة المجتمع الدولي للاحتلال الإسرائيلي    لوكا مودريتش يحطم إنجاز بوشكاش    يوفنتوس يتصدّر الدوري الإيطالي بفوزه على لاتسيو 1-0    انتخابات رابطة الأندية قبل انطلاق الدوري الممتاز    نوة رياح الصليب وأمطار غزيرة.. الأرصاد تحذر من طقس اليوم الأحد    أهالي شارع عمر بن الخطاب بمصر الجديدة يستغيثون ويُناشدون وزارة التنمية المحلية    معرض فرانكفورت للكتاب: توزيع جوائز تيك توك بوك للمنطقة الناطقة بالألمانية    ملتقى القاهرة الدولي للمسرح يكرم الفنان الراحل فؤاد المهندس بحضور نجله    «احتفالا بحملها».. سلمى أبوضيف تظهر بفستان أبيض من جديد (صور)    «زي النهارده».. اندلاع ثورة القاهرة الأولى 20 أكتوبر 1798    غدًا.. عبد الرحيم علي ضيف برنامج «كلام في السياسة» على «إكستر نيوز»    هل تذكيري لأصدقائي بتلاوة القرآن وذكر الله عليه أجر؟.. دار الإفتاء تجيب    اللهم آمين | أثر الدعاء للشهداء وأهلهم    منها الجوع الشديد..تعرف على أعراض مرض السكري عند الأطفال    نقص الفيتامينات والضغط العصبي.. تعرف على أهم أسباب الشيب المبكر    تظل سليمة بعد الموت.. كيف يؤثر نمط الحياة على صحة العظام؟    للمسافرين كثيرًا.. كيفية الصلاة في المواصلات ومعرفة اتجاه القبلة |الإفتاء تجيب    اليونسكو تساعد الأجيال المستقبلية على صون التراث الثقافي غير المادي    الكشف عن حكام مباريات الأحد بدوري المحترفين    عاجل - من المركز الوطني للأرصاد: ضباب كثيف وأمطار تضرب المنطقة الشرقية والرياض.. احتمالية تعليق الدراسة واردة!    سعر التفاح والموز البلدي والمستورد بالأسواق اليوم الأحد 20 أكتوبر 2024    الغرف التجارية: لا زيادة في أسعار السلع الغذائية بعد تحريك المحروقات    مستشار رئيس فلسطين عن قتل إسرائيل ليحيى السنوار: نتنياهو ليس له عدو شخصي    مصرع شخص وإصابة 20 آخرين في حادث تصادم سيارة برصيف بالفيوم    بسبب مكالمة هاتفية.. مقتل سائق على يد شقيقان وزوج شقيقتهم بشبرا الخيمة    عبد الرحمن فيصل: بطولة إفريقيا هديتنا للجماهير    أبو جريشة رئيسا لقطاع الكرة بالإسماعيلى.. وعماد سليمان مشرفا على الفريق الأول    5548 فرصة عمل في 11 محافظة برواتب مجزية - التخصصات وطريقة التقديم    صداع نصفي يصيب كندية بسكتة دماغية وشلل وعمى.. ماذا حدث لها؟    مين فين ؟    وزراء دفاع مجموعة السبع يعقدون اجتماعا فى نابولى لبحث تعزيز التعاون الأمنى ودعم أوكرانيا    هشام يكن: الزمالك سيدخل لقاء بيراميدز بمعنويات عالية    موعد مباراة الزمالك وبيراميدز والقنوات الناقلة في كأس السوبر المصري 2024    السيارة اصطدمت بالكارتة.. إصابة 3 أشخاص بالمنيا الجديدة    لماذا رفضت المحكمة إلزام إمام عاشور بدفع 5 ملايين جنيه لفرد الأمن بواقعة خناقة المول؟ (انفراد)    تامر عاشور يطرب جمهور مهرجان الموسيقى العربية بأغنية هيجيلى موجوع    حدث بالفن| وفاة والدة فنانة وخالد الصاوي يحذر من حقن التخسيس لهذا السبب    «مش هفتح بطني عشان بُقي».. خالد الصاوي يرفض عمليات التخسيس|وهذه أهم المخاطر    بالصور.. احتفالية لتكريم حفظة القرآن الكريم بالمنيا    نائباً عن السيسي.. وزير الأوقاف يصل إندونيسيا للمشاركة في حفل تنصيب الرئيس الإندونيسي الجديد    في تصنيف QS Arab Region.."طنطا"تحتل المركز 78 من بين 246 جامعة مصنفة    رسالة أسبوع القاهرة للمياه: الماء حق لكل إنسان.. و"سد النهضة" انتهاك للقانون الدولي    جامعة قناة السويس تنظم برنامجاً تدريبياً لطلاب STEM حول تصميم وتنفيذ كوبري مائي متحرك    رغم امتلاء بحيرة سد النهضة، إثيوبيا تواصل تعنتها وتخفض تدفق المياه من المفيض    فرص عمل جديدة بمحافظة القليوبية.. اعرف التفاصيل    أفضل 7 أدعية قبل النوم.. تغفر ذنوبك وتحميك من كل شر    ليلة لا تُنسى.. ياسين التهامي يقدم وصلة إنشادية مبهرة في مولد السيد البدوي -فيديو وصور    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شاي على «الراكية» في «الغيط» وحكايات وهموم فلاح مصري
نشر في البديل يوم 17 - 04 - 2015

التناغم مع الزرع أرقى وأسمى من التناغم مع بعض البشر. وانطلاقًا من تلك القاعدة يتعامل الحاج السيد درويش مع الزرع بحميمية، لذا تراه سعيدًا جدًّا وهو ذاهب صباح كل يوم إلى "الغيط"، حيث عالمه المليء بالحكايات والهموم.
وسط زراعته تراه يتحرك يمينًا ويسارًا.. ليراعى محصوله.. استقبلنا بابتسامة "شوق" وكأن لسان حاله يسألنا "إنتو فين من زمان؟!"
يمتلك الحاج سيد مجموعة من الحواديت، حيث إن لمضيفنا ذكريات عديدة مع الفلاحة والأرض. فبعد أن أنهى مهمته فى حصد البرسيم، اعتدل وشد جسده الأسمر الذي زادت شمس الغيط من صلابته؛ ليستقبلنا بابتسامة عريضة كشفت عن تجاعيد تصف عمره وشقاءه؛ ليتبع كل ذلك بقوله "اتفضل يا أستاذ"، وهو يمط الحروف بلهجته الؤيفية. وجلسنا سويًّا على كومة البرسيم، وهو مصر على عمل الشاى على الراكية، قائلاً "هنعمل شاى وبعدين نتكلم".
أحضر غلاية اسودت من كثرة وضعها، وبمعنى أوضح حرقها على الراكية، وأمسك يدها التي هي عبارة عن سلك ألومنيوم ملفوف، وبكف يده وضع "تلقيمة" الشاي والسكر، ثم صب الشاى فى الكوب الصاج "أبو ودن"، وقلب الشاى بعصا، وناوله لي.
وبدأ حديثه عن الآلات التي كانت تمثل العناصر الرئيسية في زراعته للأرض وحصاده، ومنها "النورج" التي لم يعد لها وجود.
وقال حزينًا إن الفلاح المصرى فقد الكثير من الآلات التي كانت تمثل العناصر الرئيسية في زراعته للأرض وحصاده، ومن هذه الآلات التي لم يعد لها وجود، بل وتكاد تكون تاريخاً لا تعرف الأجيال الجديدة شيئاً عنها النورج، وهي آلة لدريس وتنعيم أعواد القمح والشعير والعدس والفول؛ لفرط حبوبه؛ حتى يتم جمعها وتنظيفها من التبن؛ لتصبح الحبوب صالحة للطحن أو للاستخدام.
وتابع أن تلك الآلة البدائية كانت تصنع من الأخشاب وبها سهام حديدية تجرها دابة أو دابتان.. وتتكون من عدة أجزاء بخلاف السهام التي تدور على المحصول في دائرة كاملة لتهشِّم عيدانه؛ حتى تتحول إلى مواد شبه ناعمة، ثم يأتي بعد ذلك دور الفرز لما تم طحنه بالنورج، فيقسم إلى أقسام مثل البذور والتبن. وكان النورج في البداية مجرد آلة مصنوعة يدويًّا يقوم بصناعتها النجار والحداد.. الأول يصنع الهيكل والثاني يصنع السهام الدائرية التي تشبه الأسطوانات المفتوحة من المنتصف.. وهى التي تستخدم في طحن المحصول، وتسمى في سوريا "جنجرة"، وفى بعض المناطق "نورج"، ويتم صناعتها من نوع خاص من الخشب.. ففي مصر تصنع من النبق، وفى سوريا من خشب الجوز والحديد.
وفى صعيد مصر ما زالت لها آثار؛ إذ يحتفظ البعض بها كنوع من التراث، ومن العائلات من حولوها إلى ما تشبه أريكة أمام البيوت، ولم تكن كل العائلات تمتلك النورج، بل يكفى في القرية الواحدة التي لا يتجاوز سكانها العشرة آلاف عشرة نوارج، أو خمس عشرة؛ لأنها لا تستخدم طوال العام، وإنما بعد مواسم الحصاد، وبعد انتهاء الدريس يتم تخزينها، ثم تعاد صيانتها بعد ذلك قبل الموسم الجديد.
وكانت "النورج" من الوسائل التي لا تستغنى عنها العائلات الكبيرة، والتي كان لها الفضل الأكبر في تشجيع الزراعة بمختلف أنواعها، حيث لعبت دوراً رئيسيًّا في اتساع مساحات الأراضي الزراعية بأضعاف مما كان عليه سابقاً؛ لأن اختراعها سهَّل على الفلاحين طريقة جني محاصيلهم. وظلت النورج هي الأداة الرئيسية في كثير من دول العالم العربي، وأكثر الدول التي عرفت بها هي العراق، حيث كانت تصنع أساساً في الموصل، لكثرة أنواع الأخشاب ذات القدرة على التحمل، ثم انتشرت في العالم العربي، وخاصة في سوريا ودول شمال إفريقيا، وتستغرق عملية فرم المحصول عدة أيام بل أسابيع أحياناً، تظل فيه الدواب في حركة دائرية، إلى أن يتم درس المحصول، ويحول إلى مواد سهلة الفصل بين البذور والتبن.
ومع الأيام ظهرت الآلات الحديثة، ومنها "الدراسة"، وهى آلة يستخدم فيها الموتور أو الجرار الزراعي، وكانت تدار في البداية بالجاز، ثم استخدمت فيها الكهرباء. وتوقف العمل بالنورج لسهولة تحويل المحصول وفرزه بالدراسة، إذ تقوم بطحن المحصول وفرزه في نفس الوقت خلال ساعات معدودة، فوفرت على الفلاح مجهوداً مضنياً كان يقوم به باستخدام النورج.
وبعد أن أنهت النورج مهمتها تحولت إلى "دكة"، كان يتم فرشها وتجهيزها ليجلس عليها رجل البيت حين تستبد به الشيخوخة خلف باب المنزل الرئيسى.
وعن الذكريات السيئة ل "النورج" قال إنها كانت لها ضحايا كثيرون ممن سقطوا أسفل عجلاتها الحديدية الجبارة، فمنهم من قتل، ومنهم فقد بعض أطرافه. وأضاف "زمان كنا ننظر للنورج على أنه آلة عجيبة وفي نفس الوقت مخيفة.. أحن إلى أيام طفولتى وأنا أجرى خلف النورج فى أجران القرية؛ لكى أركب تلك المركبة العجيبة".
أما ذكرياته مع القطن طويل التيلة فما زال يتذكر رائحة الغيط في الخامسة صباحًا حين كان يستيقظ هو وأصدقاؤه بالقرية لرش محصول القطن بالمبيدات مقابل جنيهين لكل حوض.
ولما سألته عن ذكرياتك مع القطن، رفع حاجبيه وعلت وجهه ابتسامة ساخرة، وقال "قطن إيه يا أستاذ؟! البقية في حياتك. القطن بطلناه من زمان. إذا كنا مش قادرين على زراعة البرسيم اللي بنأكله لبهايمنا بالعافية، نقدر إزاي على القطن ولا القمح؟!".
سألته عن سبب يأسه من محصول القطن الذي بدا وكأنه "يعلن وفاته ويأخذ عزاءه"، فقال "القصة وما فيها إن عبد الناصر سابنا ومات بعد ما بنينا السد العالي بمحصول القطن وأرباحه أيام الدورة الزراعية وبحفلات أم كلثوم اللي كنا بندفع فيها خمسين جنيه تذكرة إجبارية علشان تجمع كام مليون نكسي بيهم ولادنا في الجيش ونجيب لهم سلاح يحاربوا بيه العدو. وجه بعده السادات فتح الدنيا على البحري، وهجم المستثمرين علي الأرض زي الدودة، وأكلوا خيرنا ومصوا دمنا، وبعده مبارك دفنَّا بالحياة، وقطع عنا الدعم والمياه والسماد والكيماوي والبذرة، وصدرهم لإاسرائيل، وخلانا نزرع بطيخ لب وبرسيم علشان نكفي البهايم أكل".
سألته عن الحال بعد الثورة، فأجاب ممتعضًا "كتير من الناس خدوا حقهم، وكتير خدوا اللي مش حقهم بعد الثورة، إلا الفلاح، وكل اللي خرجوا في التليفزيونات واتكلموا عن الثورة اتكلموا بس عن العمال وعن الشباب والسكن، ونسيوا أصلهم.. تراب البلد وطينها".
واستطرد قائلاً "أنا ما بازرعش إلا البرسيم في عدد قليل من القراريط. أنا أستأجرها، والحكومة لا بترحم ولا عاوزة رحمة ربنا تنزل، فبعد ما قمنا بزرع المحاصيل في الأرض، وصرفنا شيء وشويات، ورغم إننا زارعين برسيم للبهايم ومش قطن يهدد رجال الأعمال ولا الإقطاعيين، إلا أنها مش بتسيبنا فى حالنا. دول حتي بعد ما منعوا عنا مية نهر النيل ووزعوها على ملاعب الجولف والمنتجعات، ولما قمنا برفع المياه الجوفية بالطلمبات، اتفضلوا بتحرير مخالفات لنا عن كل طلمبة، ولما سألنا جانا الرد: دي مية الحكومة، وده حق البلد، وانتو سارقين المية"!
وعن الحل الأمثل لعودة الفلاح إلى محبوبه القطن طويل التيلة قال "الحل الوحيد هو الدورة الزراعية اللي بتجبر الفلاح على زراعة مساحة معينة بمحصول رئيسي زي القطن والقمح، مع تبني الدولة لسياسة دعم الفلاح من الجمعية الزراعية بالأسمدة والبذور والكيماوي، ولازم وضع سعر لشراء المحصول قبل زراعته".
وشدد على أنه "مع كل اللي فات لازم الحكومة تجمع المحصول وتسدد المقابل عن طريق الجمعيات الزراعية نفسها، زي ما كانت بتعمل بعد الإصلاح الزراعي في ثورة يوليو، ولازم وضع حد لأزمة المياه اللي افتعلها النظام السابق اللي حول مصر لإقطاعية ضخمة لرجال الأعمال والرأسماليين".
هنا أطلق الحاج سيد تنهيدة طويلة؛ ليقول "يا أستاذ المشكلة إن الحكومة دايمًا فاكرانا جهلا ولا نعرف تفاصيل الصفقات المشبوهة واللعب بلقمة عيشنا وأرضنا وقوت أولادنا. لكن الحقيقة اللي ما يعرفوهاش إننا عارفين كل حاجة وساكتين، وبنقول بكرة تتعدل. لكن صبرنا قرب ينفد".
واختتم حديثه قائلاً "سلامة الرقعة الزراعية والحفاظ عليها من الاعتداء مش هتتحقق إلا بالاهتمام بحل مشاكل الفلاح وتحقيق مطالبه، ومن أهمها: التأمين الصحي والرعاية الاجتماعية – قروض بدون فوائد – القضاء على السوق السوداء للأسمدة – توفير تقاوى وسلالات صالحة للزراعة بأسعار مناسبة – توفير مياه الرى – تسويق جيد للحاصلات الزراعية – رعاية الإنتاج الحيوانى ومشروعات التسمين".
وعقب أن تلك المطالب التى طالما تمناها الفلاح المصرى، وراح يحلم بها، وليس أكثر من ذلك,
ولكن يبدو أنه كلما زادت الأمنيات تواضعًا تضاءلت، والتى طالما غنى لها عبد الوهاب "ما احلاها عيشة الفلاح". فقد انقلب الحال، ولم تعد معيشة الفلاح هذه الأيام إلا كابوسًا ثقيلاً، خليطًا من ديون وهموم، وسهد يقلق مضاجعه، وعجز عن السداد، وقضبان من حديد تنتظره تحجز بينه وبين أحلامه.
ورغم كل ذلك فما زال هناك من يتفاءل ويقول "ما زال الأمل موجودًا". وهو الحاج السيد درويش.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.