التناغم مع الزرع أرقى وأسمى من التناغم مع بعض البشر. وانطلاقًا من تلك القاعدة يتعامل الحاج السيد درويش مع الزرع بحميمية، لذا تراه سعيدًا جدًّا وهو ذاهب صباح كل يوم إلى "الغيط"، حيث عالمه المليء بالحكايات والهموم. وسط زراعته تراه يتحرك يمينًا ويسارًا.. ليراعى محصوله.. استقبلنا بابتسامة "شوق" وكأن لسان حاله يسألنا "إنتو فين من زمان؟!" يمتلك الحاج سيد مجموعة من الحواديت، حيث إن لمضيفنا ذكريات عديدة مع الفلاحة والأرض. فبعد أن أنهى مهمته فى حصد البرسيم، اعتدل وشد جسده الأسمر الذي زادت شمس الغيط من صلابته؛ ليستقبلنا بابتسامة عريضة كشفت عن تجاعيد تصف عمره وشقاءه؛ ليتبع كل ذلك بقوله "اتفضل يا أستاذ"، وهو يمط الحروف بلهجته الؤيفية. وجلسنا سويًّا على كومة البرسيم، وهو مصر على عمل الشاى على الراكية، قائلاً "هنعمل شاى وبعدين نتكلم". أحضر غلاية اسودت من كثرة وضعها، وبمعنى أوضح حرقها على الراكية، وأمسك يدها التي هي عبارة عن سلك ألومنيوم ملفوف، وبكف يده وضع "تلقيمة" الشاي والسكر، ثم صب الشاى فى الكوب الصاج "أبو ودن"، وقلب الشاى بعصا، وناوله لي. وبدأ حديثه عن الآلات التي كانت تمثل العناصر الرئيسية في زراعته للأرض وحصاده، ومنها "النورج" التي لم يعد لها وجود. وقال حزينًا إن الفلاح المصرى فقد الكثير من الآلات التي كانت تمثل العناصر الرئيسية في زراعته للأرض وحصاده، ومن هذه الآلات التي لم يعد لها وجود، بل وتكاد تكون تاريخاً لا تعرف الأجيال الجديدة شيئاً عنها النورج، وهي آلة لدريس وتنعيم أعواد القمح والشعير والعدس والفول؛ لفرط حبوبه؛ حتى يتم جمعها وتنظيفها من التبن؛ لتصبح الحبوب صالحة للطحن أو للاستخدام. وتابع أن تلك الآلة البدائية كانت تصنع من الأخشاب وبها سهام حديدية تجرها دابة أو دابتان.. وتتكون من عدة أجزاء بخلاف السهام التي تدور على المحصول في دائرة كاملة لتهشِّم عيدانه؛ حتى تتحول إلى مواد شبه ناعمة، ثم يأتي بعد ذلك دور الفرز لما تم طحنه بالنورج، فيقسم إلى أقسام مثل البذور والتبن. وكان النورج في البداية مجرد آلة مصنوعة يدويًّا يقوم بصناعتها النجار والحداد.. الأول يصنع الهيكل والثاني يصنع السهام الدائرية التي تشبه الأسطوانات المفتوحة من المنتصف.. وهى التي تستخدم في طحن المحصول، وتسمى في سوريا "جنجرة"، وفى بعض المناطق "نورج"، ويتم صناعتها من نوع خاص من الخشب.. ففي مصر تصنع من النبق، وفى سوريا من خشب الجوز والحديد. وفى صعيد مصر ما زالت لها آثار؛ إذ يحتفظ البعض بها كنوع من التراث، ومن العائلات من حولوها إلى ما تشبه أريكة أمام البيوت، ولم تكن كل العائلات تمتلك النورج، بل يكفى في القرية الواحدة التي لا يتجاوز سكانها العشرة آلاف عشرة نوارج، أو خمس عشرة؛ لأنها لا تستخدم طوال العام، وإنما بعد مواسم الحصاد، وبعد انتهاء الدريس يتم تخزينها، ثم تعاد صيانتها بعد ذلك قبل الموسم الجديد. وكانت "النورج" من الوسائل التي لا تستغنى عنها العائلات الكبيرة، والتي كان لها الفضل الأكبر في تشجيع الزراعة بمختلف أنواعها، حيث لعبت دوراً رئيسيًّا في اتساع مساحات الأراضي الزراعية بأضعاف مما كان عليه سابقاً؛ لأن اختراعها سهَّل على الفلاحين طريقة جني محاصيلهم. وظلت النورج هي الأداة الرئيسية في كثير من دول العالم العربي، وأكثر الدول التي عرفت بها هي العراق، حيث كانت تصنع أساساً في الموصل، لكثرة أنواع الأخشاب ذات القدرة على التحمل، ثم انتشرت في العالم العربي، وخاصة في سوريا ودول شمال إفريقيا، وتستغرق عملية فرم المحصول عدة أيام بل أسابيع أحياناً، تظل فيه الدواب في حركة دائرية، إلى أن يتم درس المحصول، ويحول إلى مواد سهلة الفصل بين البذور والتبن. ومع الأيام ظهرت الآلات الحديثة، ومنها "الدراسة"، وهى آلة يستخدم فيها الموتور أو الجرار الزراعي، وكانت تدار في البداية بالجاز، ثم استخدمت فيها الكهرباء. وتوقف العمل بالنورج لسهولة تحويل المحصول وفرزه بالدراسة، إذ تقوم بطحن المحصول وفرزه في نفس الوقت خلال ساعات معدودة، فوفرت على الفلاح مجهوداً مضنياً كان يقوم به باستخدام النورج. وبعد أن أنهت النورج مهمتها تحولت إلى "دكة"، كان يتم فرشها وتجهيزها ليجلس عليها رجل البيت حين تستبد به الشيخوخة خلف باب المنزل الرئيسى. وعن الذكريات السيئة ل "النورج" قال إنها كانت لها ضحايا كثيرون ممن سقطوا أسفل عجلاتها الحديدية الجبارة، فمنهم من قتل، ومنهم فقد بعض أطرافه. وأضاف "زمان كنا ننظر للنورج على أنه آلة عجيبة وفي نفس الوقت مخيفة.. أحن إلى أيام طفولتى وأنا أجرى خلف النورج فى أجران القرية؛ لكى أركب تلك المركبة العجيبة". أما ذكرياته مع القطن طويل التيلة فما زال يتذكر رائحة الغيط في الخامسة صباحًا حين كان يستيقظ هو وأصدقاؤه بالقرية لرش محصول القطن بالمبيدات مقابل جنيهين لكل حوض. ولما سألته عن ذكرياتك مع القطن، رفع حاجبيه وعلت وجهه ابتسامة ساخرة، وقال "قطن إيه يا أستاذ؟! البقية في حياتك. القطن بطلناه من زمان. إذا كنا مش قادرين على زراعة البرسيم اللي بنأكله لبهايمنا بالعافية، نقدر إزاي على القطن ولا القمح؟!". سألته عن سبب يأسه من محصول القطن الذي بدا وكأنه "يعلن وفاته ويأخذ عزاءه"، فقال "القصة وما فيها إن عبد الناصر سابنا ومات بعد ما بنينا السد العالي بمحصول القطن وأرباحه أيام الدورة الزراعية وبحفلات أم كلثوم اللي كنا بندفع فيها خمسين جنيه تذكرة إجبارية علشان تجمع كام مليون نكسي بيهم ولادنا في الجيش ونجيب لهم سلاح يحاربوا بيه العدو. وجه بعده السادات فتح الدنيا على البحري، وهجم المستثمرين علي الأرض زي الدودة، وأكلوا خيرنا ومصوا دمنا، وبعده مبارك دفنَّا بالحياة، وقطع عنا الدعم والمياه والسماد والكيماوي والبذرة، وصدرهم لإاسرائيل، وخلانا نزرع بطيخ لب وبرسيم علشان نكفي البهايم أكل". سألته عن الحال بعد الثورة، فأجاب ممتعضًا "كتير من الناس خدوا حقهم، وكتير خدوا اللي مش حقهم بعد الثورة، إلا الفلاح، وكل اللي خرجوا في التليفزيونات واتكلموا عن الثورة اتكلموا بس عن العمال وعن الشباب والسكن، ونسيوا أصلهم.. تراب البلد وطينها". واستطرد قائلاً "أنا ما بازرعش إلا البرسيم في عدد قليل من القراريط. أنا أستأجرها، والحكومة لا بترحم ولا عاوزة رحمة ربنا تنزل، فبعد ما قمنا بزرع المحاصيل في الأرض، وصرفنا شيء وشويات، ورغم إننا زارعين برسيم للبهايم ومش قطن يهدد رجال الأعمال ولا الإقطاعيين، إلا أنها مش بتسيبنا فى حالنا. دول حتي بعد ما منعوا عنا مية نهر النيل ووزعوها على ملاعب الجولف والمنتجعات، ولما قمنا برفع المياه الجوفية بالطلمبات، اتفضلوا بتحرير مخالفات لنا عن كل طلمبة، ولما سألنا جانا الرد: دي مية الحكومة، وده حق البلد، وانتو سارقين المية"! وعن الحل الأمثل لعودة الفلاح إلى محبوبه القطن طويل التيلة قال "الحل الوحيد هو الدورة الزراعية اللي بتجبر الفلاح على زراعة مساحة معينة بمحصول رئيسي زي القطن والقمح، مع تبني الدولة لسياسة دعم الفلاح من الجمعية الزراعية بالأسمدة والبذور والكيماوي، ولازم وضع سعر لشراء المحصول قبل زراعته". وشدد على أنه "مع كل اللي فات لازم الحكومة تجمع المحصول وتسدد المقابل عن طريق الجمعيات الزراعية نفسها، زي ما كانت بتعمل بعد الإصلاح الزراعي في ثورة يوليو، ولازم وضع حد لأزمة المياه اللي افتعلها النظام السابق اللي حول مصر لإقطاعية ضخمة لرجال الأعمال والرأسماليين". هنا أطلق الحاج سيد تنهيدة طويلة؛ ليقول "يا أستاذ المشكلة إن الحكومة دايمًا فاكرانا جهلا ولا نعرف تفاصيل الصفقات المشبوهة واللعب بلقمة عيشنا وأرضنا وقوت أولادنا. لكن الحقيقة اللي ما يعرفوهاش إننا عارفين كل حاجة وساكتين، وبنقول بكرة تتعدل. لكن صبرنا قرب ينفد". واختتم حديثه قائلاً "سلامة الرقعة الزراعية والحفاظ عليها من الاعتداء مش هتتحقق إلا بالاهتمام بحل مشاكل الفلاح وتحقيق مطالبه، ومن أهمها: التأمين الصحي والرعاية الاجتماعية – قروض بدون فوائد – القضاء على السوق السوداء للأسمدة – توفير تقاوى وسلالات صالحة للزراعة بأسعار مناسبة – توفير مياه الرى – تسويق جيد للحاصلات الزراعية – رعاية الإنتاج الحيوانى ومشروعات التسمين". وعقب أن تلك المطالب التى طالما تمناها الفلاح المصرى، وراح يحلم بها، وليس أكثر من ذلك, ولكن يبدو أنه كلما زادت الأمنيات تواضعًا تضاءلت، والتى طالما غنى لها عبد الوهاب "ما احلاها عيشة الفلاح". فقد انقلب الحال، ولم تعد معيشة الفلاح هذه الأيام إلا كابوسًا ثقيلاً، خليطًا من ديون وهموم، وسهد يقلق مضاجعه، وعجز عن السداد، وقضبان من حديد تنتظره تحجز بينه وبين أحلامه. ورغم كل ذلك فما زال هناك من يتفاءل ويقول "ما زال الأمل موجودًا". وهو الحاج السيد درويش.