بعد ما يقارب عاما من "الهري"، قررت أن أغرد خارج السرب وأترك "جنب الحيط" لأسير في عرض الطريق، فأكتب عن قضايا أخشى مواجهتها وأتحاشى التعرض لها، لأكتب في الصميم بعبارات عميقة وبليغة عن قضايا وإشكاليات استعصت على الفهم من الواقع السياسي الداخلي والإقليمي الذي نعيشه. لا أعلم على وجه الدقة، ولم أهتم حقيقة بالبحث حول أسباب هذه الظاهرة وأيهما سبق الأخر، متى تحولت علاقة الزواج في مصر إلى وظيفة حكومية؟، وهل طغى شكل علاقة الزواج وتكوين الأسرة التي كانت اللبنة الرئيسية لبناء المجتمع المصري الحديث على شكل الدولة المصرية وطريقة إدارتها فتحولت الدولة إلى أسرة كبيرة؟، أم أن شكل الدولة الحديثة بعلاقاتها المتشابكة ونظامها البيروقراطي هو ما مسخ المجتمع وعلاقة الزواج إلى الشكل الحالي. خلاصة القول أن شكل العلاقة حاليا في أغلب الأحوال هو أقرب للوظيفة "الميري"، منذ بداية التقدم لطلب الزواج وإجراء المقابلة مع والد العروس واستعراض مواهب العريس وإمكانياته وشهاداته وشهادات أهله، مرورا بمرحلة التحريات الأمنية والاجتماعية واستقبال التقارير من الأهل والمعارف، وحتى كتابة العقد واستلام الوظيفة "العروس". غالبا تستمر نشوة العلاقة الجديدة مع عدد من الصراعات حول سلطات وصلاحيات الطرفين مدة قصيرة، تنتهي بتحديد شكل جامد ممل من العلاقة يستمر بإيقاعه الرتيب المنتظم رغم كل الأحداث المتجددة يوميا ظاهريا، ويظل باطن العلاقة كحركة البندول يجيئ ويروح ولكن بثبات. يلعن الموظفون جميعا الوظائف الحكومية ويعلنون سخطهم الدائم من واقعهم المرير، ثم يبذلون كل الجهد لينال أبناؤهم وظيفة الأحلام، يتعامل طرفا العلاقة مع وظيفتهم باعتبارها روتينا يوميا، حتى خلافاتهم وشجاراتهم تتحول لذات الشكل الروتيني مع تكرار المسببات، ولكن تظل ثقة كل طرف بأن العلاقة لا يمكن لها أن تنتهي، وعقد العمل الحكومي لا يفسخ إلا بجريمة مخلة بالشرف أو بالتقاعد والوفاة. لا يمنع الشكل الروتيني والفراغ في حياة الموظف من التحايل على قيود عمله الوظيفي بشكل شرعي وغير شرعي، فإن وظيفة الزوج- الزوجة، والعقد الحديدي يسمح بالكثير من الانحرافات عن قيوده، وفي الحالتين أنت بأمان مادام سرك لم يصل إلى الجهات الرقابية. ربما يرجع ارتفاع معدلات الطلاق بين المتزوجين حديثا إلى عدم فهم أغلبهم لطبيعة الزواج المصري التقليدي، أو فشلهم في الحصول على وظيفة حكومية فعملوا بالقطاع الخاص أو العمل الحر، كذبت الروايات والأفلام وصدق الأغرار فانتظروا وظيفة الأحلام ذات الراتب المناسب وعلاقات فريق العمل الودية والمكتب الزجاجي مع نافذة تطل على الحدائق، لم يستوعبوا حكمة الأولين "إن فاتك الميري اتمرمغ في ترابه". لم يفهموا أن الدولة تعلم جيدا أن مرتب الموظف لا يكفيه ولابد له من الرشوة ولكنها فضلت غض الطرف عن حل مشكلاته، كذلك يعلم الموظف جيدا أن الدولة لن تلبي احتياجاته وإن ضرب رأسه بالحائط، ولكن يظل الجميل في العلاقة هو حفاظ الطرفين على بقاء العقد واستمراره.