في مسيرته انصهار عميق، خط أحمر بمثابة "كاشف"، نقطة ينطلق منها لينظم ويركب فكرة، متتبعًا دوائر تتسع وتتعدد، أعماله عبارة عن اجترار لا نهائي، لفكر يذهب ويعود حول نفسه، حيث يحرث بعناد الأخدود ذاته. صدرت حديثًا، ضمن إصدارات "منشورات ضفاف" و"منشورات الاختلاف"، الترجمة العربية ل"كتاب الهوامش"، لمؤلفه إدمون جابيس، ترجمة رجاء الطالبي. يحتل "كتاب الهوامش" مكانة فريدة بالمقارنة مع باقي مؤلفات جابيس، يبدو أكثر معاصرة من كتبه الأخرى، متأثرًا بمفكري اليوم، أصوات حميمية تتقاطع عبر صفحاته، مغطية في بعض الأحيان صوت جابيس: بول سيلان، جاك ديريدا، ماكس جاكوب، روجي كالوا، إيمانويل ليفيناس، ميشيل ليريس، وغيرهم، من أجل أن نفكر في عجائب الكتابة ومعجزة المعنى. يمكن اعتبار الشاعر والمفكر إدمون جابيس، شاعر المنفى واللانتماء، شاعر التيه والفراغ، مكانه الحقيقي هو الكتاب والصحراء، يجسد مساره الكتابي نوعًا من العبور للصحراء، نوعًا من العبور ما بين السماء والرمال، ما بين الكل والفراغ، سؤال يضطرم من أجل نفسه ومن أجل الفراغ الذي يسكنه، تجسد تجربة الصحراء عنده نوعًا من الإنصات الكلي، والكتابة هي انفتاح أبدي، هي انفتاح الانفتاح، ما يهم في كتابته هو تعذّر القول والنقصان، اللا اكتمال، القطيعة، اللا يقين، الشك، فكل جواب لا يكفي، السؤال هو المهم وهو الذي يجعل دومًا المساءلة ممكنة. إدمون جابيس ولد في القاهرة عام 1912، والتقى سنة 1935 ماكس جاكوب، الذي تبادل معه مراسلات نشرت سنة 1945 من طرف بول إيلوار الذي اطلع على أشعاره الأولى، غادر مصر سنة 1956 عقب تأميم قناة السويس، بسبب أصوله اليهودية، وترك ذلك أثراً عميقاً في أعماله التي تتميز بتأمل شخصي في المنفى والهوية اليهودية، وفي باريس، وطد صداقاته مع أندريه جيد، وهنري ميشو، وبول سيلان، وإيف بونفوا، وغيرهم. من بين مؤلفاته، نذكر: «أشيّد مسكني» (1959)، و«كتاب الأسئلة» في ثمانية أجزاء ( 196-1973)، ثم «كتاب المشابهات»، الذي صدر في أجزاء أيضاً، و«كتاب الضيافة» (1991). في كتابه «كتاب الهوامش»، تأملات وأسئلة عن ماهية الكتاب؟ ماذا تعني القراءة؟ ما الذي يختفي وراء الكلمات؟ ماذا يقول المؤلف؟ وماذا يسمع القارئ؟ بينما أصوات قريبة تتقاطع مع صوته بل تغطيه عبر أقوال واستشهادات يستحضرها جابيس لبول سيلان، جاك ديريدا، ماكس جاكوب، روجي كالوا، إيمانويل ليفيناس، ميشيل ليريس موريس بلانشو وغيرهم. من أجواء الكتاب: «أن تكتب كسؤال للكتابة؛ سؤال يحمل الكتابة التي تحمل السؤال، ولا تسمح بأي علاقة بالكائن. يرى إليها كتقليد، كنظام، كحقيقة، وككل شكل للتأصيل – الذي تلقيته يوماً من ماضي العالم، مجال كنت مدعواً فيه إلى التدبير من أجل أن تقوي «أناك»، بالرغم من أن هذه الأخيرة كانت مصدعة، منذ اليوم الذي انفتحت فيه السماء على فراغها».