تراصت الحروف والكلمات فسطرت جملًا، أخذها الناقد رونان ماكدونالد وذهبا معًا يشهدان حفل تأبينه، عبر ما يقرب من 200 صفحة، حملت كل واحدة منها جزءًا من آلمه وأحلامه التي تلاشت سريعًا، فقرر أن يرثي عمره وحياته بنفسه في كتابٍ بعنوان «موت الناقد» صدرت نسخته العربية بالقاهرة، مؤخرًا، عن المركز القومي للترجمة. في «موت الناقد» نشاهد نقادًا جالسين في سكون، وففي انتظار نهاية مراسم حفل تأبينهم في سلام، كما رغب صديقهم رونالد ماكدونالد.إذ تقوم الفكرة المركزية لهذا الكتاب على مقولة بسيطة، هي أن النقد الأكاديمي القائم على حكم القيمة قد تراجع دوره وتضاءل تأثيره وضعفت صلته بجمهرة القراء في ظل مد النقد الثقافي الذي يتصدر المشهد النقدي في المؤسسة الأكاديمية البريطانية، وكذلك الأمريكية. يبني الأكاديمي البريطاني «ماكدونالد» على هذا التصور، إعلانه المدوي عن "موت الناقد" والعمل الجاري على حفل تأبينه، في إشارة رمزية دالة على فقدان الناقد الأكاديمي، وكذلك الصحفي، مكانتهما ودورهما في الثقافة الإنجلوساكسونية خلال العقود الثلاثة أو الأربعة الأخيرة؛ وبالتحديد بعد الثورة الطلابية في أوروبا عام 1968 وصعود التيارات المعادية للسلطة، والكارهة لها، في المجتمع الشاب الداعي إلى التحرر من جميع أشكال السلطة، بما فيها سلطة الناقد الأكاديمي، المعلم، الذي يلقي وجهه نظره حول الآداب والفنون من عل وكأن كلمته هي الفصل، منهيًا كل حوار وجدل وآراء فردية غير عالمة في النقاش الذي يدور حول النصوص والآثار الصنعية الأدبية والفنية. انطلاقًا من هذا التصور الذي قدمه المؤلف، رأى أن ثورات الطلاب واحتجاجاتهم العاصفة في نهاية ستينيات القرن الماضي، نجحت في تغيير مسار النظرية الأدبية ووجهة التعليم الأكاديمي في حقل العلوم الإنسانية، ومن ضمنها تعليم الآداب والفنون، في الوقت الذي فشلت في هز أركان السلطة السياسية والاجتماعية في أوروبا وأمريكا، مشيرًا إلى أن هناك تحول جذري حدث في دراسة الآداب والفنون، إذ حل القارئ غير المتخصص محل الآخر المتخصص الذي يعمل في المؤسسة الأكاديمية. بجوار ذلك رأى «ماكدونالد» أن دور الناقد شحب وتضاءول حضوره أيضًا، بسبب ابتعاده عن كتابة ما نسميه في الحقل العربي "النقد التنويري"، وانسحابه إلى صومعته الأكاديمية مكتفيًا بكتابة دراسات وبحوث مليئة باللغة الرطانة التي لا تفهمها سوى نخب متخصصة عالمة باللغة الاصطلاحية والمفاهيم والمنهجيات التي توجه هذا النوع من الكتابات النقدية، التي لا تلقي بالًا لما تهتم به الجمهرة الواسعة من القراء من تعريف بالأعمال الأدبية والفنية وتقديم إضاءات حولها وربطها بشروط إنتاجها وسياقاتها، والتعرف على موضعها من النصوص التي سبقتها، وكذلك على مواضع تميزها ومقدار إضافتها إلى النوع الأدبي التي تصنف ضمنه، وإلى الحقل الأدبي والفني عمومًا. اختباء الناقد داخل صومعته هذه، أثر سلبًا على الحقل الأدبي، إذ رأى المؤلف أن هذا الأسلوب أدى إلى التخلص من التقويم وحكم القيمة، ومن الناقد الأكاديمي المتخصص واسع المعرفة الذي يقوم بعملية التقويم ويصدر أحكام القيمة، بضربة واحدة، لننتهي إلى تصورات من نوع "الجمال في عين الرائي"، وأن وجهات النظر التي يدلي بها القراء، بقطع النظر عن معارفهم وأذواقهم وتوجهاتهم، وكونهم متخصصين أو غير متخصصين في الحقل النقدي، متساوية في قيمتها لا يفضل واحد منها الآخر، ولا يعد رأي الأكاديمي المتخصص في المسرح الشكسبيري أكثر أهمية، بأية صورة من الصور، من رأي أي قارئ عابر لشكسبير. يتابع المؤلف أن في هذه اللحظات المفصلية من عمر النقد جرى التمهيد ل«موت الناقد» وانسحابة من المشهد واكتفائه بالعمل داخل أسوار مؤسسته الأكاديمية، مديرا ظهره للعالم الصاخب من حوله، لكن المشكلة هي أن الناقد الأكاديمي لم ينسحب من المشهد وحده، بل أنه أطفا نور القاعة بعد انسحابه؛ لقد فصل بسيف بتار بين النقد المتخصص والقارئ العام المتعطش إلى معرفة رأي النقاد في النصوص التي ما تفتأ دور النشر الكثيرة تدفعها للسوق. كما أنه ترك العمل لبعض نقاد الصحف غير المتخصصين، أو لمتقدمي برامج التليفزيون الحوارية وأحكامهم الشخصية القادرة على توجيه ذائقة القراء أكثر من أي ناقد كبير في هذا العصر. يعيد ماكدونالد هذال الانتقال من تبجيل آراء النقاد في أربعنيات وخمسنيات، وربما ستينيات القرن الماضي، أي من التصورات والرؤى التي تمنح دورًا متميزًا ومنفردًا للناقد الأكاديمي المتخصص إلى التعويل على الآراء الفردية غير المتخصصة واحتقار حكم القيمة، إلى عهد أبعد قليلا من الزمان الحاضر؛ إلى عمل الناقدين الإنجليزين آي. ريتشاردس ووليام إمبسون، وكذلك إلى النقد الأمريكي الجديد وتيارات البنيوية والتفكيك التي سعت إلى تحويل النقد إلى نوع من العلم الإنساني الجديد الذي يستعير أساليب اللغة والعلوم التجريبية في دراسة النصوص الأدبية. ومن هنا سطر المؤلف وجهة نظره وهي "مات الناقد" بالمعنى المجازي وأخلى مكانه للقارئ الذي يستطيع الآن، في ضوء تطور وسائل الاتصال، أن يضفي قيمة على الأعمال الإبداعية التي يقرأها دون حاجة إلى ناقد متخصص يرشده ويدله على ما يستحق القراءة وما لا يستحق، فالناقد الأكاديمي المتخصص لم يعد يطل على القراء في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام المختلفة. يعزو ماكدونالد ضعف دور الناقد في اللحظة الراهنة، إلى انتشار المدونات والمواقع التي تتيح لأي شخص (بقطع النظر عن معرفته وعلمه وتضلعه في الموضوع الذي يكتب عنه) الكتابة عن الكتب، والأفلام والمسرحيات والعروض الموسيقية، لكنه أيضًا يرى أن القول بأن هذا النوع من الكتابة النقدية غير المتخصصة قد حل محل النقد المتخصص الذي تنشره الصحف والمجلت أمر مبالغ فيه، كما أن الظن بأن المدونين قد حلوا محل النقاد ليس صحيحًا تماما، ويمكن أن ندرك ادعاء مثل هذا في خانة التخويف على تلاشي المؤسسة النقدية وحلول نوع من الكتابات السريعة، التي تعتمد على الذائقة لا المعرفة، محل الكتابة التي تضئ النصوص والكتابات، وترينا بصورة جلية لماذا يكون الأدب والفن جديرين باهتمام الناس. ذلك هو الدور الرئيسي للناقد الذي ينبغي أن ندافع عنه في عصر المعرفة السريعة السابحة بين الشاشات.