أتذكر يوما كنت أجلس فيه في بيت الله استمع لدرس من الشيخ محمد حسان، وكان يحلل حينها أسباب تخلفنا وفقرنا وسوء أخلاقنا وتكالب الأمم علينا، كان الحديث هادئًا إلى أن جاءته ورقة تحمل سؤالا حول حكم المشاركة في مظاهرات رفض التعديلات الدستورية ورفض التوريث.. ليتحول البحر الهادئ لأمواج متلاطمة، ويرد الشيخ بكل عصبية: "… لأننا تركنا الغاية التي من أجلها خلقنا ربنا: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، فأصبح تيهنا في هذه الحياة الدنيا أمرا حتميا، وسنصبح في أراذل الأمم بل في أسفل سافلين، ولن يتغير حالنا أبدا بالصراخ والنعير والإضرابات المخربة والمظاهرات الصاخبة، وأقسم بالله لو كنا صالحين لأنزل الله علينا عمر بن الخطاب ليحكمنا! أحسست وقتها بوجع لم يُسكنه إلا انتفاضة شاب برئ – يُرى على وجهه أثر الفقر والهم والحزن – لم يستطع أن يتحمل تطفيف الشيخ وسكوته على الظلم والفساد والفقر الذي طال كل جنبات الوطن – إلا مسكن الشيخ ومأكله مشربه ودابته المتواضعة – فقال للشيخ بجرأة يحسد عليها ووسط مريديه و"ألتراسه": بس يا شيخ العيشة بقت صعبة أوي والقهر كل يوم بيزيد، وقبل أن يكمل حديثه باغته الشيخ بصاعقة ظن أنها سوف تخرس هذا المتنعم المترف وتقيم الحجة على باقي الحاضرين: إنت اتعشيت ايه إمبارح؟! فرد الشاب بمنتهى التلقائية: اتعشيت قشطة. ليرد الشيخ بكل زهو وثقة – وكأنه أحرز انتصار إبراهيم عليه السلام وهو يجادل النمرود – اتعشيت قشطة ومش عاجبك حالك لا حول ولا قوة إلا بالله ؟! ثم يكمل الشيخ بكل استهزاء كام واحد صلى الفجر جماعة؟ فترتفع أيادي ليست بالكثيرة.. فيسند الشيخ ظهره متحسرًا: هؤلاء فقط من صلوا وتريدون أن تنصروا؟! للأسف كم من فتاوى جاهزة ومغالطات فاضحة تربينا عليها دهورا حتى بات مقصد الدين وجوهر التشريع بعيدا عنا.. فهل العبادات حقا هي الغاية التي خلقنا الله من أجلها؟ وماذا سينتفع الله من شعائرنا وهو غني عن العالمين؟! سيرتقي البعض عن هذا الفهم السطحي قليلا مسترشدا ببعض الآيات بأن الهدف من الصلاة أنها تنهانا عن الفحشاء والمنكر، وهدف الصدقات ومساعدة الفقراء هو التزكية والتطهير، لكن قليل هم من فطنوا أن العبادات والأخلاق وجميع التكاليف هي مقدمات لهدف أعظم ألا وهو سعادة الإنسان، نعم الغاية التي من أجلها خلق الله الإنسان هي تحصيل السعادة، والتي لن تتأتى إلا بتحقيق عبودية الله في الأرض، ولن تتحقق العبودية إلا بفهمها الواضح والشامل. يقول الشيخ محمد عبده "إن المعهود في سير الأمم وسنن الاجتماع أن القيام على الحكومات الاستبدادية وتقييد سلطتها وإلزامها الشورى، والمساواة بين الرعية إنما يكون من الطبقات الوسطى والدنيا، إذا فشى فيهم التعليم الصحيح والتربية النافعة وصار لهم رأي عام". وبالطبع لن يحدث هذا في ظل تعليم ديني من شيوخ يرون أن إصلاح الفرد لنفسه هو الحل الناجع لجميع مشكلاتنا، وما دام المواطن الشريف لم يتأذَّ جسده من بطش السلطة، ولم تتوجع بطنه من شدة الفقر، وتنكسر نفسه من قهر الرجال؛ فليحمد الله أن أطعمه من جوع وآمنه من خوف، ولا يلتفت لأحد أبدا. لهذا أردف الشيخ محمد عبده حديثه لهؤلاء قائلا "من أراد أن يخدم نفسه وجب عليه أن يخدم العامة؛ لاندراج المصلحة الخاصة في المصلحة العامة، فإذا ضاعت المصلحة العامة ضاعت الخاصة أيضا، وإذا حُفظت الأولى حُفظت الثانية".