يبدو أننا أمام صراع محاور إقليمي يدور اليوم في غزة، يتجلى في أوضح صوره بين محور المقاومة، ومحور المؤامرة (ما يسميه البعض محور الاعتدال)، غير أن محور المؤامرة هذه المرة منقسم إلى فسطاطين بتعبير "بن لادن": مصر والسعودية والإمارات من جانب.. وقطروتركيا من جانب آخر. وهناك محور المقاومة الذي يضم سورياوإيران وحزب الله والعديد من الجماعات والأحزاب وأصحاب الرأي بالوطن العربي ممن يحملون الفكر القومي التحرري، وهذا المحور مايهمه في النهاية هو انكسار هذه الهجمة الصهيوأمريكيه على غزة، لأن غزة تضم حركات مقاومة ساهمت ولا تزال بحركة التحرر العربي، ومقاومة المشروع الصهيو أمريكي بالمنطقة، وانكسار غزة لا قدر الله أمام هذه الهجمة يعني لهذا المحور انتكاسة جديدة لمشروعهم النضالي للتحرر من المشروع الصهيوأمريكي بالمنطقة. واللافت أن غزة شكلت نقطة التقاء أولي بين محورين متنافسين: الأول: محور المقاومة والممانعة (سوريا – إيران – حزب الله).. والثاني: محور (قطر – تركيا – الإخوان)، مقابل محور (مصر – السعودية – الإمارات).. الهدف المشترك هنا هو تدعيم فصائل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حركة "حماس" ومنع انهيارها، بل وضمان خروجها بما يمكنها من تفكيك أطواق العزلة والحصار، واستعادة مكانتها على الساحتين الفلسطينية والإقليمية. بغض النظر عن أخطاء، بل خطايا "حماس" في حق محور المقاومة فإنها تبقى جزءاً لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، كما أن هزيمة المقاومة الفلسطينية هزيمة للأمتين العربية والإسلامية، وبطاقة أمان لإسرائيل تضمن لها احتلالها فلسطين لعقود. ومحور المقاومة يسعى بذلك للتأكيد على صحة خيار "المقاومة" وتاريخيته، مثلما يسعى إلى استعادة حماس إلى صفوفه، بعد أن تكون قد أيقنت بأن تحولاتها وتنقلاتها الأخيرة، لم تفدها في شيء. وعلى أية حال فحماس لم تجد من يقف معها في هذه الظروف المظلمة والقاسية غير محور المقاومة الذي يدعمها بالمال والسلاح والتكنولوجيا والتدريب، وهو الوحيد القادر على حمايتها مما يحاك ضدها من مؤامرات. أما المحور الثاني: محور (قطر – تركيا – الإخوان)، فإنه يسعى بالأساس إلى مناهضة الدور المصري، رغم أن هذا المحور وإن كان يلتقي مع محور (القاهرة – الرياض) إلى درجة كبيرة على الساحتين السورية والعراقية، إلا أنه يفترق عنه افتراقاً حاداً عندما يتصل الأمر بمجريات الوضع على الساحة المصرية منذ الإطاحة بحكم مرسي، واستتباعاً على الساحة الفلسطينية حين يتعلق الأمر بحماس وقطاع غزة. ولذلك، نجد أن مصر قد قدمت مبادرتها لإنهاء العدوان على غزة، وقد تعمدت إعادة انتاج "اتفاقية 2012" التي أبرمتها حماس مع إسرائيل برعاية حكم الإخوان، وكأن الأمر مقصود تماماً، لكي يقال لحماس، ترفضون من نظام السيسي اليوم، ما سبق أن كبرتم وهللتهم له بالأمس، زمن نظام الرئيس المعزول محمد مرسي. فمصر الرسمية من ناحية لا تريد أن تفقد دورها المركزي في القضية الفلسطينية، ومن ناحية أخرى لا تريد أن ترى تلك القضية وقد تحولت إلى ورقة في يد محور آخر أو دولة أخرى في المنطقة، كما أنها لا ترغب في أن تتمكن حماس من فرض شروط إقليمية تحقق نصراً يمكن من خلاله غسل سمعة إخوان مصر وإعادتهم إلى واجهة البطولة والأحداث. فدخلت بمبادرة تعتبر مصيدة حقيقية لنزع سلاح وصولا إلى إجتثات المقاومة من غزة، وبذلك تكون مصر الرسمية قد أمنت ما تعتبره إرهابا يهدد أمنها القومي إنطلاقا من غزة، ويكون الكيان الصهيوني قد ارتاح من صواريخ المقاومة. أما فلسطين القضية فهي خارج أي اهتمام حقيقي أو جاد. ويسجّل التاريخ لملك السعودية موقفاً ملتبساً اختلط فيه الشعور بالمؤازرة مع شعب فلسطين، مع موقف أقرب إلى الإدانة للمقاومة كما توحي الجملة التالية من رسالة العاهل السعودي: "حتى أصبح للإرهاب أشكالا مختلفة، سواء كان من جماعات أو منظمات أو دول وهي الأخطر بإمكاناتها ونياتها ومكائدها". وإذا أضفنا لذلك الرسالة التي وجهها الأمير تركي الفيصل لمسئولي كيان الاحتلال في مقال نشر في صحيفة "هآرتس"، بمناسبة عقد ما يسمى "المؤتمر الإسرائيلي للسلام" وفيها يؤكد حرص المملكة على أمن واستقرار وطموحات كيان العدو عبر دفعه للقبول "بحل الدولتين الذي يمكن أن يلبي طموحات الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني"، على حد زعمه. وأبدى الفيصل في "المقال-الرسالة" تودداً كبيراً للمسئولين الإسرائيليين، حيث قال: "تعالوا نحلم للحظة.. تخيلوا أن أستطيع أن أركب الطائرة من الرياض وأطير مباشرة إلى القدس، وأركب من هناك سيارة أجرة لأزور قبة الصخرة، ومن ثم أزور قبر إبراهيم في الخليل. ثم أعود إلى بيت لحم لأزور كنيسة المهد، وبعدها إلى متحف المحرقة اليهودية، تماماً كما قمت سابقاً بزيارة متحف الكارثة في واشنطن، عندما كنت سفيراً هناك". ولم ينته حلم الأمير السعودي بزيارة إسرائيل، بل شمل أيضاً دعوة الإسرائيليين إلى زيارة السعودية، إذ أضاف: "يا لها من لذة ألا أدعو الفلسطينيين فقط، بل الإسرائيليين الذين سألقاهم أيضاً، ليأتوا لزيارتي في الرياض، حيث يستطيعون التجول في بيت آبائي في الدرعية التي تشبه معاناتها التي نالتها من قهر إبراهيم باشا معاناة القدس على يد نبوخذ نصر والرومان ضد اليهود". بالإضافة إلى ما كشف عنه الإعلام من فضيحة كبرى تتعلق بتحريض وزير خارجية الإمارات في اجتماع سري جرى بينه وبين الصهيوني ‘أفيغدور ليبرمان' الشهر الماضي في باريس، حثه فيه على بحث خطط عسكرية تتضمن اجتياحا بريا لغزة، مقابل أن تتكفل الإمارات بتمويل الحملة. من كل ما سبق، نرى أن فلسطين قد تحولت إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية بين المحاور، وأن العدوان الصهيوني على غزة قد كشف أن الدم الفلسطيني بات يُوظَف من أطرف ومحاورعربية وإقليمية في صراعها على قيادة وزعامة الشرق الأوسط، واللافت أن الخلافات بين المحاور العربية والإقليمية ليس تنافسا على من يحمي الفلسطينيين، بل على مستقبل قطاع غزة بعد الحرب، ولأي محور سيخضع؟. والمستفيد حتى الساعة من هذا الصراع هو الكيان الغاصب والمعتدي. اما سفارات العدو فهي موجودة في عمانوالقاهرة واسطنبول، والتطبيع مع العدو سياسياً ومعنوياً وعسكرياً وأمنياً واقتصادياً، ويزودون العدو الصهيوني بالغاز والنفط والمال العربي. لكن ما نحن على يقين منه، هو أن غزة لن تسقط، وأنها ستنتصر، وستفرض شروط شعبها للمرحلة المقبلة. إنها المقاومة وحدها التي تمكنت دون غيرها من جمع شتات الشعب الفلسطيني وتوحيد كلمته، لأنها الثابت الوحيد الذي يلتقي عليه الفلسطينيون، وما سواه يفرق ولا يوحد، وذات يوم قال جمال عبد الناصر قائد وثائر العروبة الأكبر: "إن المعيار الوحيد في الحكم على موقف ووطنية أي بلد أو طرف عربي هو الموقف من المقاومة الفلسطينية.. التي هي أشرف ظاهرة عربية في التاريخ العربي الحديث".