نهضتنا معاقة واستعادة مشروع طه حسين «الآن» إفلاس فكري التنويريون أهملوا مشروع «أبو زيد» مقابل احتفائهم بمشروع «فودة» سيل عارم من الأبحاث والدراسات، ومعها الكثير من المشروعات النهضوية التنويرية هدفت إلى هدم وخلخلة الخطاب الديني المتشدد أحد أهم الأسباب الجوهرية في تخلفنا الحضاري، لكن النتيجة كانت "لا شيء يحدث ولا أحد يمر من هنا"؛ فلم يستطع خطاب النخبة المصرية "التنويري" صمودًا في وجه الآخر المتشدد أو بالأحرى هدمه، فصار "ازدراء الأديان" تهمة رائجة تلصق بمن يعمل عقله، وعلى أيدي من خولوا لأنفسهم التفتيش في ضمائر الناس عبر شعارات من قبيل "هل صليت على النبي اليوم". يتضح أن الأزمة ليست في خطاب متطرف أضفى مساحات من الظلام على وجه مصر الإبداعي، بل تكمن الأزمة أيضاً في الخطاب المضاد التنويري والذي وصفه البعض بالمتعالي والمنعزل عن الواقع. في ضوء ذلك كان حوارنا مع أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة- الدكتور علي مبروك، صاحب المشروع الفكري الممتد منذ كتابه "النبوة من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ" مروراً بدراسته التأسيسية عن "الإمامة والسياسة والخطاب التاريخي للعقائد وانتهاءا ب "ثورات العرب.. خطاب التأسيس"، ليوضح لنا أزمة الفكر وأسباب التراجع والانسداد التاريخي العربي بوجه عام؟ يقول «مبروك»: يبدو أن الطريقة التي أدار بها العرب نهضتنا مسؤولة إلى حد كبير عن هذا التأزم، فالعرب طوال الوقت كانوا يحاولون إنتاج الجانب "البراني" في النهضة، ذلك الجانب الذي يخلق نهضة معاقة، فقد قمنا بتركيب مكون من الحداثة والتراث، لكن هذه الصيغة لم تكن موفقة؛ بل هي المسؤولة عن الانشطار لأننا في الحقيقة نمتلك أدوات الحداثة ولا نملك جوهرها، كما نمتلك الأدوات الشكلية البرانية للديمقراطية ولا نملك جوهرها أيضًا، فعلى سبيل المثال نحن الآن لدينا كل الأجهزة الإلكترونية الحديثة وربما نجيد استخدامها لكننا لا نملك عقل ناقد ومنتج، بل نملك عقلا تابعًا، ومن ثم كانت تبعيتنا للغرب عقلية قبل أن تكون اقتصادية أو سياسية فالعقل العربي عقل إلحاقي واستتباعي وخاضع لأصل سلطوي، وهذا الأمر يعود أيضاً إلى ابتعادنا عن التفكير النقدي وتحدي الثابت والمستقر، ولذلك أرى أنه من الضروري الإلحاح على خطاب آخر يقوم على الجمع بين الفكرة الجوانية والبرانية للحداثة ولن يحدث ذلك إلا عبر عقل نقدي حديث. حين نتحدث معه عن الخطاب الديني المتشدد يفاجئنا بقوله: لا يوجد ما يسمى بخطاب ديني متشدد وآخر معتدل فهذه خرافة وتزييف للحقيقة، فالثوابت الأساسية التي يقوم عليها الخطابين واحدة، والفرق بين الوجهين يكمن في أن أحدهما يصل إلى النهايات القصوى والآخر لا يصل إلى تلك النهايات، لكن بذور التشدد والتطرف موجودة في الخطابين، وهذا الأمر تحدث فيه المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد كثيراً، فكان يرى أن هناك وسيلتين للتعامل مع الخطاب: تعامل أيديولوجي وآخر معرفي، التعامل الأيديولوجي يبرز لنا المعتدل والمتشدد، أما الآخر المعرفي يؤكد لنا أن الثوابت التأسيسية والبنيوية التي قام عليها الخطابين واحدة. علينا حسم هذه الخرافة والالتفات إلى ما يردده البعض بأن هناك جناحين داخل جماعة الإخوان أحدهما معتدل يمثله حسن البنا والآخر متشدد يمثله سيد قطب، وهذا ما يذكره الدكتور الهلباوي في الكثير من أحاديثه وإذا لم يتم التعامل مع هذا الأمر بجدية ستظل الجماعة شوكه في ظهر مصر. يرى «مبروك» أن السبب الرئيسي في فشل المشروعات الإصلاحية والتنويرية التي بدأت منذ نهاية القرن 19، يرجع إلى اشتغال هذه المشروعات على مضمون الخطاب دون التطرق للنظام الذي يحكم ذلك الخطاب من الداخل، ومن ثم القدرة على تحليله وتفكيكه، ويوضح قائلًا: كلمة "الخطاب" تستخدم بإفراط شديد في تلك الفترة حتى تحول الحديث عنها إلى جزء من نظام الموضة اللغوية وتصويره على أنه أشبه بالخطابة، لكن المعنى الحقيقي للخطاب هو: النظام الذي يركد وراء الأقول، فعلينا أن نميز بين مضمون القول والنظام الذي يجعل هذا القول مفهوماً ومعقولاً، والملاحظ أن أغلب المشروعات التي قدمت نقداً في الخطاب الديني تطرقت إلى مضمون القول فقط أي استبدال المضمون بمضمون آخر دون السعي إلى اكتشاف الأنظمة العميقة الحاكمة للخطاب الديني، سأذكر مثالاً كي أوضح الفرق بين المضمون والنظام: كان المستشرقون يرون أن القضاء والقدر يمنع الإنسان من الفعل، فرد عليهم جمال الدين الأفغاني قائلاً: القضاء والقدر يعني أن الإنسان يقوم بالفعل على طريقة الكسب الأشعري" أعتقد أن هذا رد شكلي وسطحي لما كان يقصده المستشرقون. لكن "مبروك" يستثني من تلك المشروعات التي يراها -اقتصرت في نقد الخطاب الديني على المضمون فقط- مشروع المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد، مقارنًا بينه وبين مشروع شهيد الفكر فرج فودة، فيقول: مشروع نصر حامد أبو زيد كان كاشفاً وأكثر انضباطاً وقيمة من الناحية المعرفية، لأنه كان مشغول بمحاولة اكتشاف الثوابت التي تؤسس للخطاب الديني، لكن «فودة» كان مهمومًا بمضامين الخطاب لا بالتأسيس المعرفي، لذا بدا مشروعه وكأنه جزء من معركة سياسية مع تيار سياسي آخر، به نزعة استقطابية حادة، والملاحظ أن المثقفين التنويريين أهملوا الأنظمة المعرفية لحساب المضامين، أي أنهم أهملوا مشروع «أبو زيد» في مقابل احتفائهم بمشروع «فودة». وعن اتهام البعض للخطاب الليبرالي بالتعالي والتعجرف يقول: الخطاب الليبرالي لجأ إلى النبرة المتعالية المتعجرفة عندما فشل في التأثير في الواقع، وأعتقد أن فشله يرجع إلى عجزه عن قراءة ذلك الواقع الذي يموج بالتحولات والتغيرات. في الفترة الأخيرة طرحت فكرة استعادة المشروع التنويري لعميد الأدب العربي طه حسين، لكن "مبروك" يدحض ذلك بقوله: هذا خطاب مفلس ففكرة الاستعادة تدل على إفلاس صاحبها، فكيف نستعيد مشروع فكري مر عليه أكثر من 75 عاماً، بالطبع كان مشروع طه حسين التنويري مشروعاً عظيماً لكنه غير مناسب لظروفنا الآن، فكل عصر وله المشروع الخاص به، نحن بحاجه ماسه إلى مشروع هاضم لكل المشروعات السابقة ولكن مختلف عنها في بنيتها و مضمونها.