الهجمة الخاطفة ل"داعش" في العراق، واستيلائها على مدينة الموصل وعدد من المدن الأخرى، وأخيرا إعلان "الخلافة" وتنصيب "الخليفة" إبراهيم بن عواد الملقب سابقاٌ بأبو بكر البغدادي عليها، وهو ما لم يكن في حسبان الكثير من دول المنطقة أن يكون أمر واقع، فربما يكون "داعش" خرج عن السيطرة منذ عام، فمنذ ذلك الحين صارت تتعامل بموقف الندّ لا الوكيل أو التابع، وأن البغدادي له استراتيجيته الخاصة ويسعى لمصلحته بالأساس وفقا لمبدأ تقاطع المصالح..أي أنه الأن صار عدواً مؤجل للدول التي دعمته ومولته في مغامرته بسوريا، وتحت هذا البند تم تنحية بندر بن سلطان –مؤقتا- الذي كان يتولى ادارة التنسيق والتمويل والتوجيه والإمداد العسكري والاستخباراتي مع داعش وأخواتها في سوريا، وإعلان أن الأخيرة في مارس الماضي ضمن قائمة التنظيمات الارهابية المحظورة "داخل السعودية". لكن عقب التطورات السريعة بالعراق، اضحى الموقف السعودي الأن يذكرنا بمأزق "الأفغان العرب"، مع اختلاف وتيرة وخطورة الأحداث، فالمجاهدين أو الثوار أو المعارضة سابقاً والإرهابيين لاحقاً على بعد مائتي كيلومتر من الحدود السعودية، وليس كما كانوا قبل ثلاثة عقود في جبال افغانستان. فبعد استعمال الجهاديين من قبل السعودية في ثمانينيات القرن الماضي لمحاربة السوفييت بأفغانستان في إطار الحرب الباردة بإيعاز ودعم وتوجيه أميركي، تبقت للسعودية ودول أخرى مشكلة هؤلاء العائدين من افغانستان، فتحولت ضدهم بعد تشجيع ودعم وفتاوى دينية حضت على ذهابهم لمقاتلة " الشيوعيين الملحدين" في بادئ الأمي، وبانتهاء دورهم ولعوامل عدة عصفت بالمنطقة منذ بداية التسعينات، أدارت السعودية ظهرها لهم بل وجرمت أنشطتم داخل حدودها منذ حرب الخليج الثانية. العقيدة الأمنية والأزمة السورية دأب النظام السعودي منذ التسعينيات على انتهاج ما يمكن تسميته ب"عقيدة أمنية" تجاه الجهاديين، تقوم على عنصريين أساسيين، أولهم وأهمهم هو أن تكون هذه الجماعات خارج الحدود السعودية، ولا تضر بمصالح المملكة، العنصر الثاني توظيف هذه الجماعات سياسيا لتحقيق مصلحة السياسة الخارجية السعودية شريطة أن يتم دعم هذه الجماعات من خلال قنوات غير رسمية. الشق الأول تم تنفيذه بشكل احتوائي طوال فترة التسعينات بقبضة أمنية حديدية، وبعد 11 سبتمبر قطعت السعودية –بشكل ظاهري- كل ما تبقى من خيوط مع التنظيمات المتطرفة وشددت قبضتها داخلياً حتى تبعد عنها شبهة دعم الإرهاب في هذه الفترة. الشق الثاني تم توظيفه بشكل نموذجي في الأزمة السورية، فدعمت السعودية تدفق الإرهابيين إلى سوريا من كل بقاع الأرض، وأمنت معسكرات التدريب والسلاح بشراكة دول اقليمية، ووفرت غطاء إعلامي وديني لهم. وكان الفاعل الرئيسي والمشرف على هذا الانفتاح من الجانب السعودي الأمير بندر بن سلطان المعين حديثاً وقتها كرئيس للاستخبارات. والذي أوغل في دعمه للمسلحين على أمل أن يتم إسقاط نظام الأسد سريعاً، ولكن بعد عامين أتضح أن الأسد باقي، بل أن موقفه صار أقوى من بداية الأحداث بسوريا، وأن معظم الدعم والأسلحة من الجانب السعودي وقعت في يد جهاديين منفلتين لا يلتزموا بأطر القيادة التي تطمئن لها السعودية مثل النُصرة أو الجيش الحر، ناهيك عن الاقتتال بين الاطراف هناك، وهو ما يعني فشل بندر في مهمته، بل أمتد هذا الفشل إلى نشأة خطر محتمل جديد يسمى "داعش"، حاولت القيادة السعودية أخذ احتياطها من تمدده وانفلاته، فشرعت في اجراءات منذ بداية العام الحالي من شأنها ضبط قنوات الدعم ولملمة الفوضى التي تسبب فيها تهور بندر، فأصدرت قائمة بالتنظيمات الإرهابية المحظور تواجدها على أراضيها أو انضمام السعوديين لها بعقوبات تصل إلى الإعدام، ومنح فترة لمواطنيها المنغمسين في هذه التنظيمات بالتوبة والعودة إلى المملكة، وغيرها من الإجراءات الاحتوائية والحمائية، لكن دون تجفيف منابع الدعم أو غلق قنوات التمويل مثل ما ذكر تقرير للخارجية الأمريكية منذ شهور حول التمويل الخليجي للتنظيمات الارهابية. ورطة السعودية بعد إعلان "الخلافة" منذ اندلاع الاحداث الأخيرة في العراق، سعت السعودية إلى انفاء أن ما يحدث في شمال وغرب العراق من صنع داعش وأن الواقع يقول أن ما يحدث هو "انتفاضة سُنية" ضد ظلم وقهر حكومة المالكي، وأن العديد من الأطر السياسية والقبلية والعشائرية في العراق تشارك في هذا الحراك، وان مساهمة داعش فيه لا تتعدى كماً وكيفاً أصابع اليد الواحدة من نسبة المسلحين والتواجد على الأرض والسيطرة على المدن، أو بعبارة أخرى حاول الأعلام السعودي ومن لف لفه من الفضائيات العربية اقناع الجميع أن دور داعش في العراق ضئيل وأن ما يحدث ليس هجوماً إرهابيا على شعب العراق يسعى لتقسيم المُقسم ونتائجه ستكون أكثر كارثية من الاحتلال الامريكي أو سنوات استبداد صدام حسين..لكن الأن ومع جلاء الصورة، والتأكد أن الفاعل الأهم والأول فيما يحدث بالعراق هو "الدولة الإسلامية"، التي أعلنت الخلافة قبل يومين، فأسقطت بالبروباجندا السعودية وادعاءات أن ما يحدث "ربيع عربي" جديد، حسبما صرح رجل السعودية سابقاً بالعراق طارق الهاشمي. سيناريوهات الصدام أو الاحتواء بعد خطوة البغدادي الأخيرة، والذي أصبح لقبه بعدها رسمياً "الخليفة إبراهيم بن عواد" أصبحت هناك ضرورة لتقويمه واحتواء جماعته، سواء بخلق عدو داخل بيتها، وانشقاق جديد مثل حالة "النُصرة"، أو حتى دعم التنظيمات القاعدية الأخرى في المنطقة ضد توجه "الدولة الإسلامية" باعتبار أن الأولى –وللسخرية- أكثر اعتدالا، أو تقوية ودعم تنظيم مسلح في العراق ليقف في وجهها(النقشبندية، مجلس ثوار العشائر..إلخ)، وهو ما يعني صدام وشيك بين معسكر المسلحين المناوئين لحكومة المالكي، من الممكن أن يستفاد منه الأخير كما حدث في سوريا، أو أن ينجح"داعش" مرة أخرى في تجاوز هذا العائق بما يمتلكه من قدرة عددية ونوعية ومالية تمكنه من تَسيد باقي التنظيمات وخضوعها، مثل ما حدث مؤخراً في بلدة البوكمال السورية، حيث أعلن مقاتلي "النُصرة" بالمدينة مبايعة أبو بكر البغدادي. وهو ما يعني لو أستمر الحال على هذا المنوال في العراق، أن يرتقى التنظيم من مجرد تابع أو وكيل لتنفيذ سياسة السعودية إلى ندّ يريد أن يصبح له نصيب أكبر ووضع أفضل وربما اعتراف -ولو ضمنيا- بدور في العراق المُقسم..فالبغدادي يتعدى نفوذه الأن حدود العراقوسوريا، ومن الواضح أنه سيكون رجل الساعة في الفترة القادمة على الساحة الجهادية من باكستان غربا وحتى شمال ووسط افريقيا شرقاً، ومن الممكن القول أن طالما ابتعدت "الدولة الإسلامية" عن صدام مباشر مع السعودية –وهو الأمر الغير مضمون- ستلجأ السعودية إلى الخطوات السابقة في محاولة لاحتواء أو تحييد هذا الخطر الجديد، وهو ما قد يفسر عودة بندر للظهور مرة أخرى وتعيينه مبعوث ومستشار للملك بالإضافة لمنصبه الأساسي كأمين عام مجلس الأمن الوطني، وهو ما يؤكد افادات سابقة بتوليه إدارة ملف العراق. السعودية الأن أمام مأزق ثلاثي؛ فمن جهة لا تستطيع أن تستمر في ادعاء أن ما يحدث بالعراق أنه "انتفاضة" ولا تستطيع إنكار أن "الدولة الإسلامية" لها اليد العليا فيما حدث وسوف يحدث، وهو ما يسقط اتجاه المناداة بالمحاصصة ورئيس وزراء توافقي. ومن جهة ثانية إذا حاولت احتواء وعقد صفقات مع المارد الجهادي الجديد فسيتم وصمها أمريكيا بوصمة دعم الإرهاب خاصة في ظل تراكم الثلوج بينها وبين الإدارة الأمريكية مؤخرا، وأخيراً إذا بادرت هي بالصدام مع "الدولة الإسلامية" عن طريق وكلاء لها بالعراق يعني أن الدولة ستسرع بتوسيع مجالها ليشمل الأراضي السعودية.