ثورة لم ينصفها المؤرخون، ولا انتصر لها المحدثون، نسب إليها جملة من النقائص تصم كل من شارك فيها ، لكنها ومهما حدث تظل وهجًا تحرريًا استمر قرابة خمسة عشر عامًا، وكان من أهم أسباب انهيار الدولة العباسية فيما بعد. لقد كانت ثورة الزنح نتاجًا لمجموعة من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي جعلت من اندلاعها أمر يصعب تلافي حدوثه. ففي منتصف القرن الثالث الهجري ونتيجة للتوسع في جلب الجواري من كل حدب وصوب؛ انغماسًا في حياة المتعة والترف من جانب خلفاء بني العباس – استفحل خطر أمراء الجند من الترك وغيرهم، حتى سيطروا بالكامل على أزمَّة الأمور وأخذوا في التخلص ممن لا يوافق نهجهم من خلفاء بني العباس الذين كانوا في جملتهم من أبناء الإماء – عشرة من أصل ثلاثة عشر حكموا الدولة العباسية في القرن الثالث الهجري- فعمت الفوضى وزادت المظالم وانتشرت روح التمرد والثورة في طول البلاد وعرضها بسبب سوء الأوضاع الناتج عن التفاوت الهائل بين طبقة مترفة من الحكام والأمراء، وغالبية عظمى من الشعب تعيش بؤسًا حقيقيًا لا نظير له. وهناك في جنوبالعراق في المناطق الواقعة بين البصرة وواسط ، وجد علي بن محمد الملقب بصاحب الزنج بغيته في الآلاف من الزنج الذين يعيشون في ظروف معيشية مهينة ويعملون في استصلاح الأرض وتطهيرها من الترسبات الملحية وزراعتها ولا يحصلون في مقابل ذلك إلا على طعام من أردأ أنواع التمر و السويق الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، واستطاع (علي) بخطابه المحمَّل بقيم العدل والتحرر، أن يفجر في نفوسهم ثورة غضب دمرت مدائن بكاملها، وتسببت في سقوط أكثر من نصف مليون قتيل! وكان علي بن محمد فيما قبل مقربًا من الخليفة المنتصر بالله الذي حاول أن يفلت من قبضة الترك ويعيد إلى منصب الخليفة سلطاته وهيبته، ولكنه قُتل على أيديهم، وكان علي بن محمد من جملة من اعتقلوا بعد مقتله، ولبث في السجن فترة ثم استطاع الهرب في أحداث فوضى عمت البلاد اقتحمت على إثرها السجون، وتم إطلاق السجناء. ولعلنا نلحظ ذلك التباين الكبير في الحديث عن صاحب الزنج، فنجده في تاريخ الطبري يُنعت بالخبيث واللعين والدعي، إلى جانب قائمة من أشنع التهم، كادعاء النبوة والعلم بالغيب، وتعمد انتهاك الحرائر من الهاشميات وسبيهن وبيعهن بأبخس الأثمان، ثم نجده في مواضع أخرى من كتب التاريخ ينعت بالثائر الشاعر العالم، وفي هذا الاختلاف الحادث تآمر واضح على الحقيقة نراه في تراثنا في غير موضع. ويذهب البعض إلى أن على بن محمد قد قرر الخروج على الدولة رفضًا لهيمنة الترك الكاملة على مقاليد الحكم، فلقد بدأ الدعوة إلى الثورة بعد فراره من السجن في البحرين ثم انتقل إلى البادية وتبعه نفر من الأعراب إلى أن حلَّ بالبصرة، وهذا ما يؤكد أنَّ الثورة كانت عربية الطابع طوال فترة تشكلها الأولى والتي استمرت قرابة السنوات الست، كما كانت عربية في قيادتها إلى أن انتهت بهزيمة علي بن محمد ومقتله في العام السبعين بعد المئة الثانية من الهجرة، وإلى جانب الزنج الذين رأى فيهم علي بن محمد وقودًا لثورته نجد الفقراء من أهل جنوبالعراق والذين عُرفوا ب (الفراتيين) يشكلون رقمًا في معادلة الثورة لا يمكن تجاهله. لقد استطاع علي بن محمد أن يقيم دولة مترامية الأطراف شملت البحرينوالبصرة والأبلة والأهواز وواسط والقادسية وجنبلاء والنعمانية والمنصورة ورام هرمز والمنيعة والمذار وتستر وخوزستان وعبادان وأغلبَ سواد العراق، وجعل لها عاصمة أسماها المختارة، ثم كان أن ألقت الخلافة العباسية بكل ثقلها في المعركة ضد الثورة، وكرست كل إمكاناتها للجيش والقتال، وبعد أن عهد الخليفة المعتمد العباسي بالقيادة الميدانية إلى أخيه الموفق، تحول قائد الجيش إلى خليفة حقيقي وتحولت المدينة التي بناها تجاه عاصمة الثوار والتي سماها الموفقية إلى العاصمة الحقيقية للدولة ويأتي إلى بيت مالها كل خراج البلاد لدعم المجهود الحربي في إخماد ثورة الزنج، وتصدر منها الأوامر إلى كل الولاة والعمال في سائر أرجاء الخلافة في أن يقدّموا كلَ ما يستطيعونه لمساندة جيش العباسيين في قتاله, الأمر الذي أوغر صدر الخليفة المعتمد حتى لقد حاول الفرار من سامراء إلى مصر ليدخل في حماية الطولونيين، فألقي القبض عليه بنواحي الموصل وأعادوه إلى سامراء شبه سجين، وسيكون فيما بعد للطولونيين دور لا ينكر في كسر ثورة الزنج بعد التحاق جيشهم المتركز في الشام بقيادة لؤلؤ- بجيش الموفق. لقد انطلقت حركة الزنج من واقع يحفل بالألم والاضطهاد الاجتماعي والاقتصادي، وكانت بدايتها ناجحة انسجمت فيها الأهداف مع ما كان يتم على الأرض؛ لكن البعض يرى أنَّ النزعة الفوضوية التي طبعتها وهي في قمة مواجهاتها أدت إلى تقلص بعدها الاجتماعي، وقد زاد من تلك النزعة افتقارها إلى برنامج ثوري يصوغ تطلعات وأهداف القائمين عليها، ويوضح العلاقة بين القيادة والثوار، بالإضافة إلى أنَّ أطرها الثورية كانت محلية ومحدودة ولم تكن لديها تطلعات شاملة، فلم يستطع علي بن محمد اكتساب قطاعات كبيرة من المجتمع العراقي كالفلاحين والتجار والحرفيين، واعتمد بشكل كبير على الزنج الذين يفتقرون إلى أسباب القوة الحقيقية رغم كثرة عددهم، ومن ناحية أخرى فإنَّ تسارع وتيرة الأحداث، وتصميم العباسيين على إنهاء هذه الحالة الثورية، لم يمنحا على بن محمد الفرصة لتطوير أساليب المواجهة والدفاع وتوفير مناخ يسمح ببناء مجتمع مستقر ينتظم شكل الدولة الركينة؛ لذلك كان من الطبيعي أن تفقد هذه الحركة طابعها الإنساني والثوري مما دفعها إلى نهايتها المحتومة، لكن قاعدتها الثورية التي تشتتت استطاعت أن تكون إحدى الدعائم الأساسية التي دفعت ما يسمى بحركة القرامطة إلى الظهور فيما بعد.