تضعنا عروض الحكي دوما أمام العديد من الأسئلة التي تخص التلقي وترتبط بهذا الشكل السردي الحي يمكن أن نبدأها بسؤال .. ما هي الحكاية؟ هل هي التفاصيل التي تتلى متضمنة قصصا وشخصيات وإشارات درامية متباينة!، أم هي الحالة النفسية والشعورية والفكرية للحكاء نفسه والذي يحاول أن يجسد تفاصيل الحكاية عبر أنفاسه ودرجات صوته ولغته الجسدية التي لا يسمح لها شكل الحكي بالحركة التمثيلية ولكن بنظرات ونبرات وتهدجات متنوعة!! ربما الحكاية في النهاية هي مزيج ما بين الأثنين! .. وبالتالي يصبح الحكاء هو الحكاية نفسها ويصب كل هذا في حالة توحد وجدانية تنتج عنها مجازات وصور داخلية تتشكل في عقل المتلقي فيشعر ساعتها أنه لا يسمع الحكاية فقط بل يراها أيضا في قلبه! قد تصلح هذه الفرضية لقراءة عرض"مريم"الذي قدمته فرقة حالة المسرحية،من إخراج محمد عبد الفتاح " كالابالا"، طوال ثلاثة أيام على خشبة مسرح الهناجر خلال موسم شم النسيم القصير جدا، حيث يمكن من خلالها أن ندرك أسباب تورطنا في بعض الحكايات وبقائنا بعيدين عن حكايات أخرى رغم الجهد اللغوي والخيالي والسردي المبذول فيها! أثنتا عشر حكاية قدمتها فتيات ورشة البنات الخاصة بالفرقة، تتنوع ما بين التجريد الكامل والفانتازيا والواقعية الخشنة، في البداية نرى الفتيات وهن يجلسن في نصف دائرة متراصين أمامنا وخلفهن الفرقة الموسيقية تعزف الأغنيات حية، ملابسهن في النصف الأول من العرض تبدو ملابس عادية، أي ملابس الفتيات أنفسهن، بينما تتبدل في النصف الثاني ليرتدين لون موحد هو الأحمر القاني لا يكسره سوى فتاتين ترتديان الأزرق، فلماذا؟ من المفترض أن التنوع البصري أو التشكيلي في أي عرض يرتبط أساسا بالمضامين التي يطرحها العرض حتى لو تشكل بدنه السردي من حكايات مختلفة الأنواع، وإن كانت كلها تدور حول محور واحد وهو الأنثى في تجلياتها المختلفة. فما الذي دعى صناع العرض إلى تقسيم الملابس ما بين عادية متنوعة ثم موحدة متشابهة ،هل هي مجرد رغبة في الفصل بصريا ما بين قسمي العرض ، أي مجرد حلية شكلية! أم أن لهذا علاقة بمضمون الحكايات الأولى للعرض ثم مضمون الحكايات التالية في القسم الثاني، فهل تبدو الحكايات الأولى مختلفة ومتنوعة بشكل ما يجعل من الطبيعي أن ترتدي كل فتاة ملابسها العادية والتي تختلف في ذوقها ولونها وخلفيتها الاجتماعية عن ملابس الأخريات ثم تبدو الحكايات في القسم الثاني أكثر توحدا وتمحورا وتشابها بشكل يجعل من الضروري أن تبدو الفتيات في زي واحد! بالطبع لا فمنذ البداية للنهاية ونحن ندرك عقب تواتر الحكايات وتلاحقها أنها مختلفة الشكل والإيقاع والطول والتيمات وأسلوب الأداء باختلاف الفتيات أنفسهن. هل هو إذن نوع من التصعيد البصري أو خلق ذروة بصرية، حيث يبدأ العرض بالفتيات مختلفات المظهر ثم تدريجيا مع تراكم الحكايات وبيان تمحورها حول الروح الأنثوية تتوحد الأزياء على اعتبار أن"كل البنات مريم" ، كما يرد في أحدى الأغنيات التي تشكل الفواصل والخطوط التأكيدية التي يضعها صناع العرض ،تحت/بين، الحكايات للتركيز على أفكارها ومشاعرها وانفعالاتها التي ربما لم يفصح عنها الحكي بشكل كامل. يمكننا من باب حسن الظن النقدي أن نقرأ عملية تبديل الملابس من هذه الزاوية وإن كان من الصعب تصور أن المتلقي سوف يدرك هذا التحول على المستوي الدرامي بل سيتعامل معه على اعتبار إنه مجرد حلية شكلية كما ذكرنا للفصل ما بين قسمي العرض ليس أكثر،ما الذي ينقص هذه الحكايات إذن لكي يجمعها بستان واحد من الرضا والتورط الشعوري والنفسي فيها! ثمة سياقات عامة من الصعب تصور أن تكتمل الحكايات نفسيا وشعوريا بدونها، أولها وأبسطها وأكثرها بديهية هو أن المشاهد غير القارئ لا يملك رفاهية استعادة الجملة أو التفصيلة التي يسمعها عبر تواتر الحكاية، لأن التلقي في هذه الحالة يعتمد على ذاكرة المدى القصير وكلما استطاعت الحكاية من خلال جمل قصيرة وتشبيهات سلسة وخيال خصب وبسيط وواضح في نفس الوقت ، كلما استطاعت الحكاية والحكاء أن يصنعوا جسرا أثيريا ما بين تلك الذاكرة وبين مشاعر ووجدانات المتلقي كلما ذاد استمتاعه واستغراقه في الحكاية واستيعابه لها وتأثره بها. ولكن عدد ليس بالقليل من الحكايات لم يتمكن من صياغة هذا الجسر الأفتراضي وبدت بعض الحكايات طويلة وأعقد مما يجب على مستوى الصور الخيالية والمجازات وعدد الشخصيات والأسماء والتفاصيل والتراكيب اللغوية بشكل يجعل المسافة تتباعد حتميا ما بين الحكاية والمتلقي كما أنها نفس تلك الحكايات وغيرها، لم تنتبه الحكاءة ومن ورائها القائمين على العرض أنها لا تملك نفس الإيقاع الزمني أو الطول السردي المتناسق والمتقارب، وهو بلا شك أمر غير حتمي لكن لوجوده أهمية كبيرة، ويعتبر من الخصال المميزة لأي عرض قائم على الحكايات لأن التناسق الإيقاعي والزمني في طول ومدد الحكايات يقوم لا إراديا بضبط ساعة التلقي البيولوجية والوجدانية داخل المتفرج وجعله أكثر اتساقا وحيوية في التعاطي مع توالي الحكايات، بل ومتشوقا لها واحدة بعد الأخرى، لأن الحكايات الطويلة أكثر من اللازم مثل حكاية الزهور والصيادين أو القصيرة جدا مثل حكاية الفتاة التي تحب جارها تجعل المتلقي يشعر، إما بفتور الحالة الوجدانية مع الطول المفرط ،وإما بعدم الاستيعاب والتشبع مع القصر المكثف وهاتين الحكايتين تحديدا بالإضافة إلى حكاية الأم والبنات الثلاث هم نماذج واضحة للعيوب السردية والإيقاعية والخيالية في مجموعة الحكايات، ليس فقط على مستوى المدد الزمنية ولكن كما ذكرنا على مستوى اللغة المركبة والخيال المعقد والتشبيهات التي تحتاج إلى تمعن لفهمها واستيعاب دلالاتها وبالتالي يفوت المتلقي جمل لاحقة وتشبيهات أخرى فيحاول إعادة التشبث بالحكاية ،ولكن خيط المتابعة ينفرط عقده وتدريجيا يجد نفسه غير متورط أو شاعر بل ويصل الأمر إلى أن ينتظر انتهاء الحكاية لكي يعود ليتابع الحكاية التالية لها من البداية طالما فاته قطار الأولى. في مقابل هذه الحكايات نجد أن ثمة حكايات أخرى اتسمت بدرجة من الكمال السردي والإيقاعي والتوحد الشكلي والوجداني ما بين الحكاية والراوية مثل حكاية"جمع التذكارات الشخصية" وحكاية"التحرش"التي قدمتها بإتقان وتكامل عضوي الراوية إسراء صالح والتي بدت معها أغنية مثل"ماليش شارع"على سبيل المثال نموذج للتأكيد والدعم الشعري للحكايات وليس مجرد فواصل غنائية يمكن الأستغناء عنها أو دمجها دون أن تفقد الحكايات ميزاتها أو تضيف إليها. كما بدت شخصية المهرج"كاني"زائدة شكلية عن حاجة السياق والشكل والإيقاع بل وغير مفهومة! فهل هي أشبه بشخصيات الحاوي والمونولوجست التي كان المسرحيين القدامى يجلبونهم لكي يقدموا"نمر"ترفيهية في"الإنتراكت"،أم أنه مجرد حشر لإحدى أفراد الفرقة الذكور في محاولة لكسر طغيان أساسي ومطلوب للتواجد الأنثوي ،العرض قائم على ورشة بنات بالأساس، ووجود ذكر من عدمه على الخشبة لا محل له من الأعراب طالما لم يتصل عضويا ولا ضمنيا بالحكايات والرواة ،والأدهى أن"كاني" ، وهو مهرج أي عابث وفوضوي يحكي مقاطع قصيرة جدا تتسم بالمباشرة والتنموية أشبه بشعارات جمعيات الدفاع عن حقوق المرأة ومقاومة العنصرية الذكورية ،وهو ما يفسد الكثير من خيال ورقة وحكمة الحكايات التي كلما تورطت في المباشرة كلما لفظها المتلقي بشكل لا إرادي لأن شتان ما بين التلقي والتلقين. يبقى فقط أن نتساءل حول سر وجود حكاية"مريم" ،وهي الحكاية التي أنطلق منها عنوان العرض في منتصف الحكايات وليس في البداية كنقطة هجوم أو تمهيد أو في النهاية كذروة، إن المتلقي يبحث دوما عن رابط ما بين العنوان وبين تفاصيل العرض مهما تعددت أو تشظت، لأن العنوان في النهاية هو جزء من الرابط العام، وأحد مفاتيح المشاهدة والأستيعاب بالنسبة له، حتى أغنية"مريم"نفسها- للشاعر مايكل عادل- تأتي عابرة بين أغنيات العرض رغم ما تمنحه من بلورة وتأطير جيد للحواديت بجملها البراقة التي تتحدث عن أن"كل البنات مريم"مما يمنح الشخصية الرئيسية في حكاية مريم وهي البنت الصغيرة التي تعرضت للختان بعد تجريدي بل وصوفي أيضا ينسحب على الأنثى الشرقية في كل زمان ومكان. إن وجود حدوتة وأغنية"مريم"داخل تراكم الحكايات دون تمييز مكاني أو ايقاعي أفقد العنوان والحكاية والعرض بأكلمه الكثير من القوة والتأثير الوجداني خاصة لو تعاملنا مع حكاية مريم بشكل متجرد من النظرة الاجتماعية الضيقة، على اعتبار أنها قصة أخرى من قصص الختان بل تصبح إشارة واسعة التأويل إذ ما اعتبرنا أن الختان هو ختان روحي ونفسي وعقلي بالأساس قبل أن يكون جسماني. كما أن العنوان الفرعي"حواديت من الجنة"يبدو على قدر من الافتعال والشكلانية، فأي جنة تلك التي تتحدث عنها الحواديت ، أو أتت(منها)وهل هو مجرد عنوان خيالي يحمل لمعة شعرية سواء أرتبط بالحكايات والعرض أم لا، أم أنه تضاد يحاول تأكيد المعنى خاصة أن أغلب الحكايات تتحدث عن أوضاع ومواقف جحيمية تعانيها الأنثى ولا علاقة لها بالجنة من قريب أو بعيد. مع كل هذه الملاحظات يبقى عرض مريم"حالة"حكي براقة وملفتة على طريق فن الحكاية التراثي في شكله الحديث وعبر دماء سردية وحواديت جديدة تعيد تأصيله في الوجدان الجمعي للمتلقي المصري والعربي على حد سواء.