لكل أمر قواعد وأصول حاكمه وخطوط حمراء تنظمه حتي لايخرج عن مساره الطبيعي و ربما انقلب الي أمر مغاير تماما , لأنه حتي الخلق الانساني داخله شعرات افتراضية فاصلة والأمثلة لاتحصي فبين الاعتدال والشح شعرة وبين الكرم والسفه شعرة وبين الشجاعة والتهور الأخرق شعرة وبين العبقرية والجنون شعرة . ان بعض مايجري علي الساحة المصرية يتسمي بمسمي بعيد عن واقعه تماما , فالمطالبات بحقوق مدعاة تتذرع بحق الطرح بينما هي في الحقيقة تمارس كنوع من فرض المطالبات قهرا وجبرا وبأساليب وممارسات لاتنتمي لحرية التعبير بقدر ماينتمي لحرية التدمير, والاندفاع بالدولة لهاوية منطق الغابة , فالصورة العامة تشير لا الي رفع مطالب مع اتخاذ وسائل ضغط تدريجيه بحيث تعطي أولي الأمر فرصة للبحث والدراسة و لاتستعدي المجتمع عليها لو أنها لجأت الي أعنف الوسائل مرة واحدة خرقا للشرعية وضربا لهيبة الدولة في الصميم مع ملاحظة أمر بالغ الأهمية وهو أننا اذا استثنينا فئات لاتمثل في مجموعها مليون مصري فان باقي الخمسة وثمانين مليونا لديهم مظالم متراكمة بدءا من الموظفين الي الفلاحين الي صغار التجار وانتهاء بساكني القبور والمرضي بلا دواء ضحايا سياسات النهب العام التي سادت لأربعة عقود , واذن فان من يطالب بحق عليه أن يدرك أنه ليس وحده المظلوم والا يتوهم أن له وحده أولوية العدل الناجز لقضيته ! ان بعض مايجري علي الساحة من مشاهد انما تليق بغابة لا بدولة مع ملاحظة أن بالغابة أسدا هو ملكها ولها قانون هو قانون الغابة فهي تسير وفق منطق وليست انفلاتا والا فنيت كل الغابات لو قام الجميع علي الجميع ! لا أتحدث عن قطاع الطرق السابحين في أمان يوزعون الرعب ليلا ونهارا في كل مكان ولا عن أولئك الذين فروا من السجون ولا زالوا طلقاء يعيثون في الأرض خرابا وفي خلق الله ترويعا , ولا أتكلم عن قيام مجموعة اخوة بخطف شاب وأمه وقتل الشاب أمام أمه ثم الطواف بالأم عارية جهارا نهارا في أحد مراكز بني سويف – كما نشر – دون أن تتحرك الشرطة التي ترك بعض رجالها مهمة منع الجريمة وتفرغ لمنع قياداته من دخول مقار اعمالهم !!!! , ولا أتكلم عن اضطرار الناس المسالمين الي قتل بعض عتاة المجرمين بأيديهم بعد أن شبعوا ترويعا دون أن تلتفت اليهم الشرطة التي لازالت الحاضر الغائب في أكثر الأحوال وقد سبق بعض رجالها الجميع طلبا لغنائم الثورة التي كانت الشرطة في عداوتها واستمات رجالها في قتل الثورة والثوار معا فلما نجحت كانوا في مقدمة من يطلب أرباح المشروع قبل أن يكون للمشروع من عائد بعد ! ولا أتكلم عن طرق صارت بمثابة قطعة من شيكاغو يحظر السير عليها مع حلول الظلام , لا ليس عن هذا البلاء أتكلم , وانما أتكلم عن مشاهد أخري وقعت من رجال قانون أو رجال في خدمة القانون . أفهم أن لأمناء الشرطة وأفرادها مطالب وأن عليهم – كسائر المصريين – مظالم وأفهم أن يطالبوا وأن يغضبوا ولكن ما استعصي علي فهمي تماما هو انقلاب حماة القانون المفترضين ورموز الانضباط الي مطالبين بعزل وزير الداخلية قبل التفاوض , كما لا أفهم أن يقوموا بقطع الطريق بين محافظة شمال سيناء وبين مطار العريش ولا قيام بعضهم بتحطيم مباني في صالتي الوصول والسفر بمطار القاهرة الدولي ولاقطع الطريق المؤدي لموقف بنها العمومي , ناهيك عن منع بعض مديري الأمن من دخول مقار المديريات وتقديم قائمة طويلة بالمطلوب عزلهم من الضباط حتي يرضي الأمناء والأفراد ! وقد كنت أتحدث مع أحد كبار رجال الشرطة فقال لي لقد صرنا أسري بيد الجنود والأمناء !!! كان صوته يشع احباطا ويأسا ! والسؤال هل يملك المجلس العسكري الذي يدير البلاد عصا سحرية يحل بها في طرفة عين مشكلات أمناء وأفراد الشرطة المتراكمة كمشكلات باقي المصريين ؟ وهل أسكن المجلس كل المشردين بلا مأوي وعالج كل المرضي ووظف ملايين العاطلين عن العمل وزوج ملايين من فاتهم قطار الزواج وأنصف كل مظلوم ثم تأخر في اصلاح حال الأمناء والجنود ؟ وحتي لو كان ذلك قد تم فعلا فهل تدمير المطارات وقطع الطرق جزء من حرية التعبير ورفع المطالب؟ وهل المنطق المرتجف المرتعش لوزارة الداخلية ووزيرها الطاعن في السن – مع كامل الاحترام لشخصه وتاريخه النقي – هل هذا المنطق سوف يحل المشكلة أم يفاقمها ؟ ثم أنه مادامت الحقوق تؤخذ من خلال تحطيم المباني وقطع الطرق اليس من المعقول أن تفكر كل الجهات والفئات بنفس الأسلوب ؟ انني أجزم – مقدما – بفشل أسلوب اللواء العيسوي لأنه عندما يخرج رجل الشرطة – الذي يفترض أنه نشأ علي الانضباط العسكري – علي القانون ويحطم المنشآت ويقطع الطريق فان آخر منطق يصح التفكير فيه هو مكافأته لامعاقبته وسوف تري ياسيادة اللواء لافي المدي البعيد بل في المدي القريب نتائج سياستك المهادنة في الكليات والأصول , وليس بي ذرة شك في أن رحيل اللواء العيسوي واقع في القريب بعد أن وصلت سياسات وزارته تلك الي جعل التمرد والخروج علي القانون علنا قاعدة لافي الشرطة وحدها ولكن عند شرائح المجتمع المختلفة . لقد دخل العيسوي ومن ورائه الدولة في لعبة شد الحبل مع أمناء وأفراد الشرطة ومادام قد قبل بدور الطرف الذي عليه أن يسلم بضعفه فانني أقول له من الآن ان الطرف الآخر في اللعبة لن يكف عن جرجرة هيبة الوزارة والدولة كلها كمايجري للطرف المهزوم في لعبة شد الحبل وستري في قابل الأيام أن ذلك واقع لامحالة لأنه كان أمامك خيار يحتاج الي خيال فاتبعت ماتصورته أسهل الحلول , كان أمامك فرصة تجنيد خرجي الحقوق وهناك منهم جيوش خاصة من سبق تجنيدهم بالقوات المسلحة فهؤلاء مدربون تقريبا للقيام بمهام الأمن بروح جديدة بعد تلقيهم دورات شرطية لاتحتاج سوي أسابيع , ولكن منطق المهادنة أبي الا أن يصل بنا الي ضياع الانضباط ( الميري ) ضياعا ينذر بشر مستطير ! وأختم المشهد الكئيب بأنني لست ضد انصاف مظالم أمناء الشرطة بل ان من حقهم – ككل المصريين – أن ينعموا بحياة كريمة وأن يتقاضوا رواتب تكفل لهم تلك الحياة , ولكني بالقطع واليقين ضد الخروج علي القانون وتحطيم المشآت العامة وقطع الطريق وضد أن يكون ذلك سلوكا محل ثواب بدلا من أن يكون متبوعا بحساب وعقاب , وأتمني أن تثبت الأيام خطأ ما أنا موقن من وقوعه من شيوع الخروج علي القانون مع مكافأة الخارجين , ولو كنت مكان العيسوي ماوافقت علي مطلب واحد يبدي بهذه الطريقة ولو كان آخر ما أفعله في حياتي لأن لي الذراع يجب أن يقابل بنفس المنطق والا انهارت الأصول , و لأن التفريط في المبدأ في سبيل المصلحة يهدر المبدأ ويهدر المصلحة يقينا يقينا ! ونأتي الي المشهد الثاني وهو ماوقع في ساحات الكثير من المحاكم من المحامين . وأسجل بشكل مبدئي أنني ضد أي نص ينال من حصانة المحامي أويهدده خلال أداء رسالته , فالمحاماة ليست مجرد مهنة بل هي رسالة حقيقية , وليس أدل علي كون المحاماة رسالة في الأساس أن المحامين هم أكثرأصحاب المهن الحرة تقديما لعملهم بلا عائد , وكان ولازال هناك رجال وقامات كقامة المرحوم الأستاذ نبيل الهلالي الذي كان الكثير من المظلومين يفاجأ به سابقا حتي أهله الي زيارته والوقوف معه دون انتظار لمقابل مالي , وقد عاينت في عملي بالقضاء محامين يبادرون وبشكل يومي بالحضور والترافع عمن يعتقدون أنهم مظلومون بلامقابل, والمحامون هم جزء من منظومة السلطة القضائية , والحصانة ليست لأشخاص وانما لحسن أداء رسالتهم. و برغم ايماني برسالة المحاماة وتقديري للمحامين فانني لا أفهم بعض الذي جري منسوبا اليهم ولا أتعاطف معه بل أرفضه رفضا قاطعا جملة وتفصيلا . ان من حق المحامين أن ينتفضوا بل من واجبهم أيضا كلما رأوا في الأفق أي احتمال للنيل من حقهم في مناخ ملائم لأداء رسالتهم , ولكن هل من قبيل التعبير عن الرأي أو المطالبة بحق غلق المحاكم ومنع دخول القضاة اليها عنوة وقهرا واهدارا لفكرة القانون ونسفا لهيبة الدولة ؟ وهل يليق وقوف المحامين ومنع القضاة من دخول المحاكم مع فواصل من الاهانات ؟ وهل بهذا الطريق تؤخذ الحقوق ؟ لقد نقلت الي رواية من شهود عدول عن سباب بعض المحامين لقاضي وهو يهم بدخول المحكمة حتي صاح فيهم محام قائلا ( اتركوا هذا القاضي فهو يحسن معاملة المحامين )!!! هل هذا معقول ؟ وهل بقيت للدولة هيبة بعد الاعتداء علي القضاة والقضاء الذي هو أبرز تعبير يومي عن سيادة الدولة ؟ وماذا لو علق القضاة – كما يطالب بعضهم – جلسات المحاكم وتوقف جهاز العدالة عن أداء دوره مادامت الدولة عاجزة عن توفير الحماية للقضاة وعن الدفاع عن هيبتها وقد علقت بعض المحاكم جلساتها بالفعل ؟ هل تربح المحاماة كثيرا ؟ وهل هناك من الأصل محاماة دون محاكم ؟ وهل تبقي للمحاماة كرامتها عندما تهدر كرامة القضاة والقضاء ؟ ثم ماذنب أصحاب الحقوق في القصة كلها والطبيعي أن المحامين هم من يدافع عن تلك الحقوق لا من يسد الطريق في وجه طلابها ! اليس من حقنا أن نترحم علي أيام كان المحامون أول من يدافع عن القضاة والقضاء ؟ , انني أستميح القاريء عذرا في ذكر واقعة كنت طرفا فيها , كنت أحقق قضية كبري استمرت شهورا عندما كنت وكيلا للنائب العام وكان أحد المحامين الحاضرين عن بعض المتهمين هو المرحوم الأستاذ حافظ بدوي الذي كان قبل ذلك رئيسا لمجلس الشعب عندما كنت لا أزال تلميذا صغيرا , وكنت في عمر أصغر أبنائه , كانت التحقيقات يومية وعلي مدي نحو عشر ساعات في اليوم الواحد , كنت كلما تعبت من طول جلستي ووقفت لأستعيد نشاطي هب الرجل واقفا وكنت أشعر بحرج شديد , ورجوته في كل مرة الا يفعل دون أن يستجيب, وكنت اذا غادرت المكتب هب واقفا واذا دخلت هب واقفا , وتصادف أن رن الهاتف وطلب الي أحد أقاربه أن يكلمه فأعطيته سماعة الهاتف فقال لمحدثة جملة واحدة (قلت لايطلبني أحد وأنا في النيابة ) ثم أنهي المكالة وراح يعتذر لي , وتصادف أن أقيم حفل لضابط شرطة كبير منقول وحضرت الحفل وبه حشد كبير من الحضور وكان هو – رحمه الله – من أقيم الحفل برعايته , فقدمني الأستاذ الكريم الخلوق حافظ بدوي علي الحضور جميعا وأجلسني الي جواره و وكان يناديني أمام الجميع ( سيادة الريس ) ! وما كان من الأستاذ الكريم هو منطق جيله من العمالقة الكبار! اليس ممايدمي القلب أن يرحل جيل حافظ بدوي ويخلفه جيل يغلق أبواب المحاكم في وجوه القضاة ويمعن في اهانتهم ؟! ولست أنكر أن هناك دواعي حقيقية لغضب المحامين , وموقفي من قضايا مما أثاره المحامون معلن عبر الصحف والفضائيات سواء عن تطهير القضاء أو مظالم تعيينات القضاة , وليس عن هذا أتحدث وانما عن النهج الفاجع والأسلوب الذي يستحيل الدفاع عنه لأنه لايليق تحت أي ظرف تسويغ ماجري . ان ماوقع في بعض ساحات المحاكم هو طامة كبري , والأسوأ منها أن تمر دون حساب , وأقول للدكتور عصام شرف وحكومته خير لكم أن تمسكوا بزمام الأمور جيدا وتحافظوا علي هيبة الدولة أو أن ترحلوا لأن الخرق آخذ في الاتساع علي الراتق ولأن سياسة التغاضي والانحناء أمام العواصف لن يوقف العواصف بل يزيد القائم منها ويغري بالمزيد , وأقول للرجل ان أداء حكومتك ضعيف مهتز يغري بانفلات المجتمع كله الي هاوية سحيقة , وبرغم كامل احترامي لشخص رئيس الوزراء ووزير الداخلية فاني أري أنهما ليسا رجلي المرحلة لأن اللين وحده دون بدائل سوف يعمق الأزمات علي النحو الذي نري . انني أطالب بتحقيق قضائي في كل ماوقع ومحاسبة كل من حرض أو شارك علي أي نحو في تلك الطامة الكبري , وأحذر من أنه اذا لم يتم الحساب الرادع وأنه اذا أصبح دخول القاضي محكمته رهينا برضا الراضين وغضب الغاضبين فسوف يفقد القضاء هيبته تماما واذا فقدت المحاكم هيبتها استحال أداء رسالتها لأنه كيف يصدر القضاة حكما باعدام تاجر جلب مخدرات ومن حوله جيش من المستعدين للخروج علي القانون سائرين علي سنة من أهانوا القضاة والقضاء ولم يحاسبوا , أما اذا كانت الدولة مصممة علي سياسة الانحناء للواصف والتخلي عن الدفاع عن هيبتها وتركت القضاة مكشوفين أمام من يريد الاعتداء فان من الأفضل تماما لحكومة الدكتور شرف أن تغلق المحاكم وأقسام الشرطة نهائيا لأن القانون يقوم علي تطبيقه قضاة ويقوم علي تنفيذه رجال شرطة وسوف تؤدي سياسة اللين الذي لايعرف حزما الي توقف القضاء والشرطة عن أداء رسالة تطبيق وتنفيذ القانون , وعلي الحكومة – ساعتها – أن توفر رواتب القضاة ورجال الشرطة وتوزع السلاح علي المواطنين ثم تستقيل هي بعد أن تعلن عن تحول مصر من أول دولة مركزية منظمة في التاريخ الانساني الي غابة !!!