يحتفظ الجيش المصري دائماً وأبدا ومهما تغيرت أو تبدلت الظروف برصيد كبير في قلوب المصريين، وهذه المكانة العظيمة تعرضت لاختبارات عديدة، فمنذ أعاد الزعيم جمال عبد الناصر بناء الجيش المصري بعد ثورة يوليو كمدرسة وطنية تحفظ الأمن القومي، قبل أن تحرس الحدود، وتدافع عن الأرض، ومنذ دعم الشعب للجيش في ثورة يوليو 1952، والجيش والشعب يتبادلان الدعم والمساندة والشراكة مره تلو الأخري، ففي عام 1956 كانت المقاومة الشعبية، ثم بعد نكسة 1967 خرج الشعب المصري معلنا "هنحارب" في رسالة دعم واضحة للجيش أمام العالم أجمع، وسرعان ما أثبت الجيش المصري بحرب الاستنزاف 1968-1969 أن مؤسسته اكتمل بنيانها، بعد إثني عشر عاما فقط من استناده إلي دعم المقاومة الشعبيه، وأنه لم ينكسر برغم النكسة، وبات قادرا علي تضميد جراحه بنفسه، وعلي المقاومة أيضاً، بل أنه -وفي سنوات قليله- خاض حرب التحرير التي أبهرت الدنيا عام 1973، ومن يومها لم ينقطع دور المؤسسة العسكرية عن حماية الأمن القومي خارجيا وداخليا، وقد تجلي دور الجيش في حفظ الأمن الداخلي إبان أحداث الأمن المركزي 1986، وكذا في حماية البلاد بالتعاون مع اللجان الشعبية بعد انسحاب الشرطة يوم 29 يناير 2011. ومنذ هذا التاريخ شاءت الأقدار أن يلعب الجيش دورا أساسيا لحماية الوطن والمواطنين في هذه المرحلة الحاسمة من التاريخ المصري، بل وتاريخ المنطقة والعالم. وبالرغم من أن هذه الفترة شهدت تعرض مكانة الجيش لدي الشعب لأعنف اختبار في تاريخه بعد أحداث ماسبيرو ومحمد محمود خلال شهري أكتوبر ونوفمبر 2011، إذ ظهر للمرة الأولي في تاريخ مصر شعار "يسقط حكم العسكر"، والحق أنه بداية من هذا التاريخ كان رصيد الجيش في قلوب المصريين في أقل معدلاته منذ ثورة يوليو 1952، وحتي استعاد الجيش ثقة الشعب في 30 يونيه 2013. وقد استحوذ الفريق عبدالفتاح السيسي -في أيام معدودة- علي مكانة الجيش -كاملة- في قلوب المصريين، إذ تحول بعد الموجة الأخيرة من الثورة المصرية وتحديدا بعد إعلانه عزل مرسي في 3 يوليو 2013 إلي رمز وبطل شعبي حقيقي -ويستحق- إذ بدا في المشهد علي صورة الرجل الذي يرمي بأطواق النجاة للغرقي قليلي الحيلة. ولم يهبط الرجل علي المصريين من السماء، ولكنه واحد من أبنائهم في القوات المسلحة، ورئيس مخابراتها الحربية ثم قائدها العام، فهو إذن واحد من أكفأ قادة الجيش الأعرق والأقوي والأبقي في المنطقة. ولا شك أن مصر -وجيشها خصوصا- في هذه المرحلة في أمس الحاجة إلي الرجل، وإلي كل زملائه من قادة الجيش وأعضاء مجلسه العسكري بالذات، هؤلاء الذين جاؤوا في موعدهم مع القدر، فأثبتوا كفاءة نادرة في إدارة الأزمات، فضلا عن فهم عميق وواعي لدور المؤسسة العسكرية في حماية الأمن القومي. إلا أن ترشحه للرئاسة ينقل الجيش من مربع الأمان إلي مربع المسئولية السياسية، ويضعه بين كفتي ميزان، إما النجاح أوالفشل، مما يعرضه لهزه عنيفة قد تفقده مكتسبه الأساسي من موجة 30 يونيه، ألا وهو استعادة الثقة الشعبية التي كاد أن يفتقدها بعد تجربتي الحكم الانتقالي بقيادة المشير، وحكم الإرهاب بقيادة المرشد. ذلك أنه لا انفصال بين الرجل والمؤسسة العسكرية في العقل الجمعي المصري، فقد ارتبطا ارتباطا لا يتجزأ منذ أمهل المعزول ثمانية وأربعين ساعة في الأول من يوليو2013، هذا الارتباط هو الذي جعل منه رمزا وبطلا، وهو ذاته الذي يمنعه من الترشح للرئاسة؛ فلا يمكن أن يكون الجيش مرشحا من بين المرشحين، قد يصوت له غالبية الشعب، وقد يصوت ضده أيضاً ولو أقليه. يا سيادة الفريق لن تجدي استقالتك من منصبك في فك هذا الارتباط، وكذلك لن يجدي التفويض الشعبي المتزامن مع احتفالات 25 يناير؛ إذ يختلط التفويض بمعاني الاحتفال بالثورة والدستور، كما لم تجدي محاولة تصوير نتائج الاستفتاء بالأغلبية الكاسحة "نعم" بأنها "نعم" لترشحك، إذ لن تصمد نتائج الاستفتاء طويلا كحائط صد أمام فكرة ان ترشحك يعيد توصيف أحداث 30 يونيه بأنها انقلاب عسكري، فقد كنت أولا: رمزا لعزل الجماعة الإرهابية، وثانيا: كنت المفوض بحربها في المرحلة الانتقالية، وكنت ثالثا: علي رأس المؤسسة المنوط بها حماية الاستفتاء، فكيف تكون أول رئيس بعد عزل هذه الجماعة، وحربها، والقضاء علي ما كانت تتذرع به من شرعية؟! لقد نصت المادة 234 من الدستور علي أن "يكون تعيين وزير الدفاع بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتسرى أحكام هذه المادة (لدورتين رئاسيتين كاملتين) اعتبارا من تاريخ العمل بالدستور" وقد كان -ولا يزال- فهمنا لما وراء هذه المادة من اعتبارات: هي أن يستمر الجيش ضامنا للاستقرار والتحول الديمقراطي لمدة لا تقل عن ثماني سنوات (دورتين رئاسيتين كاملتين)، بما يعني أن تعود الأوضاع إلي طبيعتها مع الرئيس الثاني أو ربما الثالث، أي بعد أن تمر مصر بثلاثة انتخابات رئاسية في أوضاع مستقرة ومناخ ديمقراطي. فلماذا لا تبقى (لدورتين رئاسيتين كاملتين) في موقعك رمزا -كما أنت- للجيش القوي الضامن للاستقرار، المؤتمن علي مستقبل الوطن؟!