بعد أقل من ثلاث سنوات من الانفصال، بدات ظاهرة الانقلابات العسكرية تفرض نفسها علي المشهد السياسي في جنوب السودان، رغم انها شهدت انحسارًا ملحوظًا في المنطقة خلال الفترة الاخيرة. وتمثل المحاولة الانقلابية الاخيرة، التي وقعت في 15 ديسمبر الحالي، احراجًا كبيرًا لدولة جنوب السودان الناشئة، كما انها فى الوقت ذاته تكشف عن وجود حالة تصدع شديدة داخل بنية حزب الحركة الشعبية الحاكم الذي ناضل طويلا من اجل الوصول للانفصال، مما يجعل مصداقية عملية الانفصال ذاتها على المحك، خصوصًا ان هذه المحاولة الانقلابية ربما لا تكون الاخيرة في اطار "صراع السلطة" بين الرئيس سلفا كير ميارديت ونائبه السابق رياك مشار، وربما تكون خطوة تمهيدية للوصول للسيناريو الأسوأ وهو "تقسيم الجنوب" نفسه، لا سيما وأن العامل القبلي يساهم في ازدياد حدة الصراع الداخلي بدرجة كبيرة. نقطة اشتعال: حاولت مجموعة من قوات الحرس الجمهوري "قوات تايجر" فى العاصمة جوبا السيطرة على مستودع للذخيرة تابع لقيادة الجيش، ما ادى الى اندلاع اشتباكات بمحيط مقر وزارة الدفاع بين الحرس الجمهوري وقوات الجيش المتمركزة امام مستودعات الذخيرة، وبين تلك المجموعة، وهو ما نتج عنه اعلان حظر التجول وانتشار قوات الجيش لضبط الاوضاع الامنية فى البلاد. وعلي خلفية ذلك، اعلن رئيس جنوب السودان سلفا كير ميارديت، فى 16 ديسمبر الجاري، عن نجاح قوات الجيش الشعبي في احباط محاولة انقلابية قام بها مجموعة من الجنود الموالين لرياك مشار النائب السابق والخصم السياسي القوى لسلفا كير، والذي عزل فى يوليو الماضي، وهو ما نفاه مشار موكدًا ان تلك الاتهامات مجرد محاولة من سلفا كير لاقصاء ومعاقبة خصومه السياسيين داخل حزب الحركة الشعبية الحاكم فى الجنوب. وبصرف النظر عن هذا الجدل، فقد فرضت تلك المحاولة الانقلابية حزمة من التداعيات السلبية، فى مقدمتها ارتفاع حصيلة الضحايا من القتلى والجرحى، واتساع دائرة الاعتقالات والملاحقات، وظهور شبح الحرب الاهلية والقبلية. خلاف قديم – جديد: لا يمكن النظر الي الصراع السياسي الحالي فى جنوب السودان على اعتبار انه وليد اللحظة الراهنة، وانما هو تراكم لخلافات سابقة بدات ارهاصاتها فى الظهور فى منتصف ابريل الماضي بين سلفا كير ونائبه السابق رياك مشار، وذلك بعد قيام الاول بسحب السلطات والصلاحيات التنفيذية من الثاني، على خلفية اتجاه مشار الي تقديم نفسه كمرشح لرئاسة الحزب، بما يجعله منافسًا لسلفا كير على المنصب ذاته. وقد استمرت الخلافات فى التصاعد بشكل كبير حتى بلغت ذروتها فى يوليو الماضي، بعد قيام سيلفا كير باقالة مشار من منصبه كنائب لرئيس الجمهورية وتعيين جيمس واني ايقا بديلا له، وهو ما دفع مشار الى توجيه انتقادات لاذعة لكير باعتباره يرسخ لنظام سلطوي يسعى من خلاله للسيطرة على السلطة بشكل كامل سواء على مستوى الدولة او على حتى مستوى حزب الحركة الشعبية الحاكم. ويبدو ان الوضع الحالي المعقد فى جنوب السودان هو امتداد لتلك الازمة السياسية بين كير ومشار، وهو ما بدا جليًا في مسارعة الاول الي اتهام الثاني بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة. ويعتبر الصراع بين كير ومشار جزء لا يتجزا من خلاف اعمق واوسع بين تيار داخل حزب الحركة الشعبية بقيادة كير، وبين تيار اخر بقيادة مجموعة من الكوادر التاريخية ذات النفوذ الكبير فى جنوب السودان فى مقدمتها مشار وربيكا قرنق – زوجة الزعيم التاريخي للحركة الشعبية جون قرنق- وباقان اموم، حيث يتهم هذا الفريق كير بالاصرار على خرق الدستور والقانون والحياد عن مسار الحركة، واعلن مرارًا عن استمراره فى النضال لتصحيح مسار الحركة، ولعل ذلك هو ما دفع كير الي توجيه اتهامات وانتقادات لاذعة لفريق مشار علي راسها انتهاك النظام داخل الحركة. محاولات وساطة: وفى خضم الازمة السياسية والانسانية الطاحنة التي تواجهها دولة الجنوب بعد احباط محاولة الانقلاب، بدات جهود الوساطة ومبادرات المصالحة تظهر تدريجيًا. ففي 19 ديسمبر الجاري، اعلن تحالف المعارضة السودانية فى الشمال اعتزامه ارسال وفد الى دولة الجنوب لتقديم مبادرة تهدف لنزع فتيل الازمة فى دولة الجنوب، وهو ما عبر عنه كمال عمر الامين السياسي لحزب المؤتمر الشعبي، الذي اكد على ان تدهور الاوضاع فى الجنوب سوف يلقى بظلاله على السودان، لا سيما فيما يخص قضية استمرار تدفق النفط. وتزامن مع تلك المحاولة، توارد تقارير عن قيام سلفا كير باللجوء لزعيم الاسلاميين فى شمال السودان حسن الترابي للوساطة بينه وبين خصومه الاقوياء داخل حزب الحركة الشعبية خاصة رياك مشار، وباقان اموم، ودينق الور، لا سيما في ظل العلاقة التي تربط بين كير والترابي، فى محاولة لايقاف تدهور الاوضاع فى جنوب السودان. ومع دخول القتال يومه السابع على التوالي واستمرار حالة التدهور الامني والانساني، أعلنت مجموعة دول افريقية عن ارسال وفد وزاري من كينيا، و اوغندا، وجيبوتي، والصومال، وعدد من ممثلي الاتحاد الافريقي، وذلك لتقديم مبادرة للسلام بين الاطراف المتنازعة. تداعيات خطيرة: فرضت الاوضاع المتدهورة فى جنوب السودان التي نتجت عن محاولة الانقلاب حزمة من التداعيات السلبية التي القت بظلالها علي حالة الاستقرار فى الدولة، يتمثل ابرزها فيما يلي: - تصاعد حدة التدهور الامني، اذ خلفت الاشتباكات اعدادًا كبيرة من القتلى والجرحى وصلت الى ما يقرب 1300 شخصًا من بينهم 500 قتيلا و800 جريح، وفقًا لتصريحات ميشال ليث وزير الاعلام، كما ادت الي نزوح ما يقرب من 16 الف شخص من جوبا الي مقرات الاممالمتحدة، بالاضافة الى مقتل 3 جنود تابعين للامم المتحدة على اثر الهجوم على قاعدة للمنظمة الدولية فى ولاية جونقلى فى 20 ديسمبر الجاري. - شن حملة اعتقالات وملاحقات واسعة، حيث قامت السلطات، فى 17 ديسمبر الجاري، باعتقال 10 اشخاص اتهمتهم بالضلوع في المحاولة الانقلابية، بالاضافة الي عدد اخر من قيادات الولايات ابرزهم تعبان دنيق والى ولاية الوحدة السابق، وشول تونغ مايايا والى البحيرات، بينما لا يزال البحث جاريًا عن باقان اموم الامين العام السابق لحزب الحركة الشعبية، والفريدو لادو قورى وزير البيئة السابق، ورياك مشار المتهم الاول فى تدبير الانقلاب. - تزايد احتمالات اندلاع حرب اهلية، لا سيما ان الرئيس الحالي سلفا كير ينحدر من قبيلة "الدينكا" والتي تمثل اكبر القبائل التي تقطن جنوب السودان، ويسعى كير للاستقواء بها لاحكام سيطرته على الدولة، بينما ينتمي خصمه مشار الى قبيلة "النوير" التي تتسم علاقاتها بقبيلة "الدينكا" بقدر كبير من الاحتقان والتوتر المستمر. وفي ظل هذا الوضع، ربما تلعب محاولة الانقلاب دورًا سلبيًا فى تاجيج الصراع القبلي والعرقي بين القبيلتين، بشكل يمكن ان يمهد الطريق نحو نشوب حرب اهلية فى جنوب السودان. سيناريوهات محتملة: يتارجح مستقبل الصراع في جنوب السودان بين سيناريوهين رئيسيين: اولهما، استمرار الصراع وتفاقمه، وهو المسار الاقرب للتحقق، لا سيما في ظل المشهد المعقد الذي بدأ يفرض نفسه بعد اعلان رياك مشار ان سلفا كير لم يعد رئيسًا شرعيًا، وانه هو المسئول عن ما اسماه "مسرحية الانقلاب"، ورفضه الدخول فى حوار مع كير، بما يعني ان قطبي جوبا لم يعد لديهم ما يمكن ان يتفقا عليه، وهو ما يعزز من امكانية انزلاق جنوب السودان فى حرب قبلية خاصة مع زيادة معدلات التوتر بين قبيلتي "الدينكا" و"النوير"، وهو ما يمكن ان يمثل خطوة تمهيدية نحو تبني خيار التقسيم كحل لوضع نهاية لتلك الحرب، بشكل يمكن ان يطلق عليه "تقسيم المُقسَّم". ثانيهما، التسوية الهشة، ويتمثل فى قدرة اطراف الوساطة، سواء الداخلية او الخارجية، على الضغط على الطرفين بغية الوصول الى حل وسط يقوم على وضع اسس ومعايير لتقاسم السلطة، مما يقلص من فرص الاقتتال الاهلي والقبلي. وربما يحظي هذا المسار بدعم من جانب القوى والمنظمات الدولية خاصة الاممالمتحدة، لا سيما بعد الاعتداء على قواعدها ومقتل بعض الجنود التابعين لها وزيادة معدلات النزوح الى مقراتها، الا انه يحتاج الي وقت حتى يتبلور فى شكله النهائي. احمد زكريا الباسوسي المركز الاقليمى للدراسات الاستراتيجية