الأحداث الجسام التي تتعرض لها الأمم والشعوب هي علامات فارقة في تاريخها لا يجب أن يمر عليها أحد مرور الكرام، فالامة التي لا تتعلم من دروس التاريخ غير جديرة بالاحترام … لقد تعرضت مصر لأحداث جسيمة في حرب 1967 وفقدت جزء كبير من قواتها وكانت محط أنظار العالم – الأعداء قبل الأصدقاء – ولم يمر الأمر مرور الكرام فقد استوعب المصريون الدرس وتصرفوا بحكمة ومسئولية وأعادوا بناء قواتهم المسلحة وحافظوا علي جبهتهم الداخلية. وأعادوا صياغة علاقاتهم بالعالم العربي والخارجي فتمسكت مصر بعروبتها وبقارتها الافريقية, ودعمت علاقاتها بدول عدم الانحياز وبدول أوروبا الشرقية وخاصة الاتحاد السوفيتي الذي ورثته (روسيا) . وتأكدت مصر أن أعدائها كانوا في المعسكر الغربي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية والصهيونية العالمية وبريطانيا واسرائيل. ولم يمر من الزمن الكثير حتي عبرت القوات المسلحة المصرية خط بارليف وهزمت اسرائيل في حرب 1973. وكان الانتصار وليد التضامن العربي , والافريقي , وبدعم من الاتحاد السوفيتي ودول عدم الانحياز . وكان هذا الانتصار هو علامة فارقة في تاريخ الدولة المصرية , ونتساءل اليوم هل تعلمت القيادة المصرية من دروس هذا الانتصار وهل سخرته لمصلحة الامن القومي العربي – كما سبق وان تعلمت من دروس هزيمة 1967. وبكل أسف لم نتعلم شئ , بل والاكثر من ذلك انها اضاعت استثمار هذا الانتصار وفرطت القيادة المصرية في اشقائها العرب وتخلت عنهم وتركتهم نهبا للصهاينة والامريكان والدول الاستعمارية وفرطت هذه القيادة في صداقتها بدول عدم الانحياز وعلي رأسها الهند وفرطت في علاقتها الاستراتيجية بروسيا (التي ورثت الاتحاد السوفيتي ) رغم وقوفها معنا في جميع مراحل كفاحنا وامدادها لنا بجميع أنواع الاسلحة التي استخدمت في حرب 1973 . لقد ارتكبت القيادة المصرية في عهد الرئيس المخلوع مبارك جريمة في حق شعبها وامتها العربية وحق أصدقائها من دول أفريقيا ودول عدم الانحياز والاتحاد السوفيتي (السابق) عندما تخلت عن اصدقائها وصادقت أعدائها ولم تتعلم من دروس انتصار اكتوبر 1973 .لقد كان للدول الشقيقة والصديقة مواقف اثناء فترات الكفاح وكان للاعداء مواقف. ويكفينا ان نتذكر بعض هذه المواقف حتي يمكن ان نميز بين العدو والصديق. ففي الثامن عشر من اكتوبر 1973 : اجتمع وزراء البترول العرب (السعودية والكويت وليبيا والجزائر وابوظبي والعراق والبحرين وقطر وسوريا ومصر) في الكويت وقرروا خفض انتاج البترول من كل الدول العربية المنتجة بنسبة 20% عما كانت عليه في اول سبتمبر 1973 . علي ان يستمر الخفض بعد ذلك بنسبة 5 في المائة ابتداء من شهر ديسمبر 1973 حتي تنسحب اسرائيل من الاراضي العربية المحتلة مع الالتزام بألا يؤثر اي خفض علي الحصة التي كانت كل دولة صديقة تستوردها من كل دولة عربية مصدرة للبترول خلال الشهور التسعة الاولي من عام 1973. كما قرر الوزراء قطع امدادات البترول نهائيا عن الدول التي تساند اسرائيل. وقد ترتب علي هذا القرار آثاراً خطيرة علي الدول الاستعمارية . ففي 8 نوفمبر 1973 : قال الرئيس الأمريكي نيكسون في حديث تلفزيوني لشعبه ان الولاياتالمتحدة تواجه بسبب قطع الدول العربية لامداداتها البترولية لأمريكا اسوأ أزمة طاقة منذ الحرب العالمية الثانية وانها قد تستدعي توزيع البنزين بالبطاقات لأول مرة منذ فترة الاربعينات. وفي ديسمبر 1973: استقال جون لاف كبير مستشاري الرئيس نيكسون في شئون الطاقة كما استقال نائبه تشارلز ديبونا من منصبيها احتجاجا علي رفض نيكسون توزيع البترول بالبطاقات. وفي 7 ديسمبر 1973: طالبت وكالة الطاقة الفيدرالية الأمريكية الجديدة خفض كميات البترول المتاحة للاستهلاك في الولاياتالمتحدة بنسبة الربع اي بمقدار مليون و 600 ألف برميل يوميا وذلك ضمن خطة افترضتها لمواجهة ازمة الطاقة وفي 29 ديسمبر 1973 : تفاقمت اثار أزمة الطاقة في الولاياتالمتحدة بحيث ادت الي الاستتغناء عن اكثر من 289 الف عامل في القطاعات الصناعية فضلا عن الاستغناء عن الاف الموظفين في شركات الطيران. ولم تكن مواقف الأشقاء العرب مع مصر قاصرة علي قطع امدادات البترول نهائيا عن الدول التي تساند اسرائيل بل تجاوزت ذلك بكثير حيث كانت هذه الدول داعمة لمصر بالمال والسلاح وكانت جميع الأراضي العربية هي عمق استراتيجي للقوات المسلحة المصرية والتي امتدت الي مضيق باب المندب وشاركتها اليمن في غلق هذا المضيق أمام الملاحة الاسرائيلية ولم يكن الاتحاد السوفيتي السابق ودول عدم الانحياز بعيدة عن دعم نضال الشعوب العربية بل كان لها بالغ الأثر في دعم هذه الشعوب وخاصة مصر والوقوف بجانبها في المحافل الدولية وامدادها بالسلاح . ولا يمكن أن تنسي ذاكرة العرب قيام الاتحاد السوفيتي السابق ببناء سد الفرات في سوريا ومجمع الصلب في عنابة بالجزائر ومجمع الصناعات الكهربائية في العراق وبناء ميناء الحديدة في اليمن وانشاء شبكات السكك الحديدية في سورياوالعراق والتنقيب عن البترول والغاز واستخراجه في العراق والجزائر ومساعدة مصر في بناء السد العالي وبناء مجمع الألمونيوم في نجع حمادي وبناء القاعدة الصناعية المصرية وخاصة الحديد والصلب في مصر. ولم تنس ذاكرة العرب أيضا قيام الاتحاد السوفيتي السابق بإعادة بناء القوات المسلحة المصرية والسورية بعد هزيمة 1967 وإمداد مصر بالأسلحة المتطورة المضاده للطائرات والتي مكنت مصر في حرب 1973 من القضاء علي التفوق الجوي الاسرائيلي وعوضت مصر عن النقص في الطائرات القاذفة. ويكفي أن نعلم ان المعدات العسكرية التي مكنت مصر من عبور قناة السويس في حرب 1973 كانت معدات سوفيتية. حتي أعلن البتاجون (وزارة الدفاع الامريكية) في السابع والعشرين من نوفمير 1973. ان القوات الاسرائيلية فشلت في الاستيلاء علي أجهزة التوجيه الخاصة بالصواريخ السوفيتية التي استخدمتها مصر في حرب اكتوبر كما فشلت في الاستيلاء علي صاروخ سام واحد من هذه الصواريخ علي الجبهة المصرية ولم تكن مواقف الاتحاد السوفيتي مع مصر قاصرة علي الامدادات العسكرية بل داعمة للحق العربي. ففي السابع من اكتوبر 1973 : اصدرت الحكومة السوفيتية بيانا رسميا عن تطورات الموقف في الشرق الأوسط حملت فيه اسرائيل مسئولية ونتائج عدوانها المتكرر علي الدول العربية. وفي الخامس عشر من اكتوبر 1973 أعلن الاتحاد السوفيتي اصراره علي مساعدة الدول العربية بكل وسيلة لتحرير اراضيهم التي احتلتها اسرائيل بما في ذلك تزويد الدول العربية بالأسلحة. هذه مجرد إشارة سريعة عن بعض مواقف الأشقاء والأصدقاء من مصر في فترة من فترات كفاحها ويجب ان نتذكر بعض مواقف الأعداء وعلي رأسهم الولاياتالمتحدةالأمريكية في خلال هذه الفترة من التاريخ . ففي 9 أكتوبر 1973 : بدأت الدوائر الصهيونية الأمريكية في هوس جنوني حملة لجمع الف مليون دولار للمجهود الحربي في اسرائيل. وفي 15 اكتوبر 1973 : أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أن الولاياتالمتحدة بدأت خلال اليومين الماضيين امداد اسرائيل بالعتاد العسكري الثقيل. وفي 16 أكتوبر 1973 : قررت الولاياتالمتحدةالأمريكية إرسال 2000 من مشاة البحرية علي ظهر حامله الهليكوبتر (ابو جيما) لتعزيز الأسطول السادس في البحر المتوسط بسبب تفاقم الأزمة في الشرق الاوسط وفي 17 أكتوبر 1973: أعلن متحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية ان الاتحاد السوفيتي قد دعم وجوده في البحر المتوسط بعد نشوب القتال في الشرق الاوسط وأنه زاد قطع اسطوله الي 70 سفينة. وفي 17 أكتوبر 1973: أعلنت المصادر العسكرية الأمريكية أن الولاياتالمتحدة في سباق مع الزمن لارسال المساعدات العسكرية الي اسرائيل تعويضا عن خسائرها الجسيمة في الحرب القائمة في الشرق الأوسط وقالت هذه المصادر ان الاولوية في هذه الأسلحة تعطي لطائرات الفانتوم وصواريخ شرايك جو أرض المضادة لشبكات الردارات والدبابات من طراز أم 60 وهي احدث انواع الدبابات وأثقلها في ترسانة الأسلحة الأمريكية. ان مقتضيات الأمن القومي العربي كانت تتطلب البناء علي ما حققناه في حرب أكتوبر 1973 وما تم تحقيقه من تضامن بين الأشقاء في الدول العربية والاصدقاء في افريقيا ودول عدم الانحياز والاتحاد السوفيتي السابق( الذي ورثته روسيا حاليا) ولكن بكل أسف لم نستفيد من شئ مما ذكر, وانفرط عقد الأمن القومي العربي بعد ان اصبحت الأمة العربية ومواقفها في هذه الحقبة التاريخية هدفا من أهداف امريكا والصهيونية العالمية الذين استهدفوا التضامن العربي وقيادة مصر للامة العربية وريادتها لأفريقيا وصداقتها لدول عدم الانحياز والاتحاد السوفيتي السابق . لقد انساق الرئيس المخلوع خلف وعود أمريكية زائفة بعد أن توهم بأنها حليفهم الاستراتيجي الذي لايمكن الاستغناء عنه في المنطقة العربية واستطاعوا من خلاله القضاء علي كل انجازات حرب اكتوبر 1973 فأعادوا قواعدهم في الخليج وفتتوا التضامن العربي وأحدثوا شروخا جسيمة في الجبهة الداخلية العربية وزرعوا استخبارتهم في معظم الدول العربية وقضوا علي زعامة مصر للامة العربية وريادتها في افريقيا وصداقتها بدول عدم الانحياز والاتحاد السوفيتي السابق ان صداقة امريكا كانت خطيئة والاعتماد عليها في التسليح كان أكبر خطيئة وان مد ايدينا اليها لنتلقي معونات منها هو أمر يتعارض مع طبيعة الشعب المصري . وان قبول أمريكا في موقع الأصدقاء يتعارض مع طبائع الأمور وحقائق التاريخ والاحداث والتي أكدت بعد سنوات طويلة من هذه الصداقة الزائفة ان الولاياتالمتحدةالأمريكية هي من أهم الأسباب التي أدت الي نشر الخراب في الشرق الاوسط وخاصة الدول العربية. يجب علينا أن نطوي صفحة الماضي وأن نفتح صفحة جديدة ننسي فيها الخراب الذي جلبه الأمريكان علي العالم العربي ونعيد صياغة الأمن القومي العربي في ضوء ثورة الشعب المصري . أن مصر لا يصح ان تدور في فلك الأمريكان والصهاينة . فلا يمكن أن يقبل أحد أن يظل ميزان القوي في الشرق الأوسط في يد الولاياتالمتحدةالأمريكية. وان تظل الولاياتالمتحدة تتحكم في مصير الشعوب العربية وتزرع الفتن والمؤامرات في ارجاء العالم العربي. فالأشقاء في الحرب يجب أن يكونوا أشقاء السلام والأصدقاء في الحرب يجب ان يكونوا هم الاصدقاء في السلام , والاعداء في الحرب لا يمكن ان يكونوا اصدقاء في السلام . فكيف لنا ان نثق بالأمريكان ونترك في أيديهم ميزان القوي في الشرق الأوسط وهم في صدارة الاعداء في حرب 1973 . إن التاريخ يحتم علينا إعادة تسليح قواتنا المسلحة من دول عدم الانحياز وروسيا وأن ننتج السلاح ويحتم علينا ألا نثق في الأمريكان ويفرض علينا ألانترك موطئ قدم لأمريكا في منطقة الشرق الأوسط. وأن نبني شرق أوسط جديد بإرادة عربية وليس إرادة استعمارية.