بالطبع تذكرون حازم صلاح أبو اسماعيل وتذكرون أنه كان يريد أن يصبح رئيسا لمصر. لا يهمني الآن حازم هذا نفسه ولكن يهمني شعار حملته الانتخابية: "لازم حازم".. عنوان ثقيل، سيئ.. كأن المؤيدين لتولي حازم منصب رئاسة الجمهورية كانوا يرون أن حازم فرض أو فريضة علينا وعلى مصر، أو كأنهم كانوا يرون أنه إما حازم وإما فلا، أو كأنهم كانوا يرون أنه "هو كده" وحازم يجب أن يكون رئيسا بالذوق أو بالعافية. لكن هل مؤيدو حازم، أو الحازمون، هم وحدهم بيننا من يؤمنون بنظرية "لازم" تلك؟ .. لا أظن.. هناك داخل كل واحد فينا تقريبا إيمان ما بنظرية "لازم"، وهناك في حياة كل واحد فينا تقريبا تعرّض مستمر لتجليات نظرية "لازم". بل ويمكنني القول إننا كلنا حازمون من هذا المنطلق. تريد أن تعرف كيف؟ بمجرد أن تدخل مرحلة التعليم الثانوي سيتطوع البعض ليقول لك إنك "لازم تدخل علمي عشان تطلع دكتور عشان الدكاترة بيكسبوا كتير في الزمن ده". وإذا رفضت نصيحة ذلك البعض وأردت أن تدخل القسم الأدبي لأنه الأنسب في رأيك لميولك وقدراتك، فإن البعض الآخر – أو ربما نفس البعض السابق – سيقول لك إنك "لازم بقى تدخل كلية التربية عشان تطلع مدرس عشان المدرسين بيكسبوا دهب وبيحاسبوا العيال بالراس". وبعد أن تدخل الكلية ستسمع "لازم تاخد دورات إنجليزي وكمبيوتر عشان هما دول لغة المستقبل وأي لغة تانية غير الإنجليزي مش مطلوبة في الشغل". وبمجرد أن تتخرج، ستسمع تجليات متنوعة لنظرية "لازم" بحسب الكلية التي تخرجت فيها. فإذا كنت متخرجا للتو من كلية التجارة وخصوصا من قسم تجارة إنجليزي، فستسمع التجلي التالي: "لازم تقدم ال سي-في بتاعك في كذا بنك عشان المرتبات والمكافآت في البنوك حلوة، ولو مش بنك يبقى شركة ملاحة". وإذا كنت متخرجا للتو من كلية الآداب، فستسمع التجلي التالي للنظرية: "لازم بسرعة تروح كلية التربية وتاخد دبلومة تربوي عشان تعرف تبقى مدرس وتدخل النقابة". أما إذا كنت متخرجا للتو من كلية الهندسة، فستسمع التجلي التالي: "لازم تقدم بسرعة في شركات البترول هنا وفي الخليج". وهكذا.. وبعد سنتين أو ثلاث سنوات من التخرج، ستسمع تجليات "لازم" على النحو التالي: "ايه حكايتك؟ انت ناسي نفسك وللا ايه؟! لازم تخطب بسرعة وتتجوز عشان نفرح بيك". وكنوع من التمهيد ل "لازم" الأخيرة، يمكن أن تسمع بمجرد التخرج التجلي التالي: "لازم تحوّش قرشين كويسين. انت ليه ماسافرتش الكويت لحد دلوقتي؟ بالذمة فيه حد يقعد هنا؟". وهكذا.. ومن التجلي الأخير يمكننا أن نغزل تنويعة أخرى على نظرية "لازم".. فمن لا يستخدم اللفظة "لازم" في نصائحه المجانية الثقيلة التطفلية التي يلقيها على مسامعك، قد يستخدم تنويعة أخرى، هي: "انت ليه ما***ش كذا؟!". وكمثال: فإن التجلي القائل "لازم تسافر الكويت سنتين تجيب قرشين كويسين عشان تكوّن نفسك وتتجوز قبل التلاتين"، ممكن أن يتم التعبير عنه بتنويعة أخرى هي: "انت ليه ماسافرتش الكويت لحد دلوقتي يا عم؟!". وبالمثل، فإن التجلي القائل "انتي لازم تتشطري وتجيبي رِجل عريس كويس قبل ما تتمي الستة وعشرين عشان مايتقالش عليكي عانس هنا في الحتة"، ممكن أن تتم ترجمته بطريقة التنويع على نفس النظرية على النحو التالي: "انتي ليه ماعرفتيش تحبي في الكلية زي فلانة؟!". وهكذا.. وبعد الزواج بحوالي شهرين كحد أقصى ستسمع أنت وزوجتك تجليات مثل: "لازم تشدوا حيلكم وتجيبوا ولي العهد بقى"، أو "انتي ليه مابتروحيش لدكتور عشان تشوفي نفسك؟!". وقبل الزواج ربما تسمع: "انت لازم تخلي بالك شوية من أختك عشان أنا لما كنت بذاكر عندك إمبارح لاحظت انها مرووشة وبتتكلم في التليفون كتير"، أو: "انت ليه ماخدتش بالك لحد دلوقتي ان أختك لها صاحبة بتلبس ضيق؟!". وربما تكون التنويعة ضمنية في نقطة كالأخيرة، وشكرا لحساسية وذوق المجتمع بصراحة، فتسمع مثلا: "هو انت أكبر وللا أختك؟ .. هي أكبر.. آااااه، عشان كده بقى بترجع بالليل من السنتر لوحدها وانت مش بتجيبها". وهكذا.. وبعد أن تنجب لك زوجتك بنتا، ستسمع تجليات وتنويعات مثل: "لازم تعمل لها عقيقة على الطريقة الليبية"، و"لازم تدخّلها مدرسة ألماني عشان تطلع مؤدبة"، و"لازم تعمل لها تقويم لأسنانها أول ما تكبر عشان ماتتعقّدش وتعرف تتجوز"، و"انت ليه ماجبتلهاش العروسة فُلّة بدل باربي؟".. أما لو كان لديك ولد، فالتجليات والتنويعات ستصبح على شاكلة: "ده طويل، لازم تخليه يلعب باسكت"، و"لازم تخيله ياخد درسين مع اتنين مدرسين في الفيزيا في الثانوية العامة عشان واحد يشرح والتاني يحل، ده الامتحان جاي صعب السنة دي"، و"لازم تعمل أكاونت وهمي عالفيسبوك وتبقى عند ابنك به عشان تراقبه"، و"انت ليه ماجبتش لابنك آيفون؟ ده البلاكبيري انقرض!". وهكذا.. وتستمر دوامة "لازم" في حياتنا، أو بالأحرى نستمر نحن المصريين على طول الخط وفي جميع مراحل حياتنا في الغرق الإجباري في سيل "لازم" وفيضان "انت ليه ما***ش؟!"، وكأن الآخرين هم الأكثر فهما لتفاصيل حياتنا منا، أو كأن ما يصلح مع شخص لابد بالضرورة أن يصلح مع الآخر، أو كأن كل عُرف أثبت نجاحا وفائدة في عصر سابق لابد أن ينسحب نجاحه على عصرنا أيضا برغم اختلاف الظروف جذريا. ولا يكف المصريون عن اختراع طرق وتنويعات جديدة لتطبيق نظرية "لازم" على الآخرين.. فهذا جارك يقول لك: "لازم تخلي بالك من صحتك شوية عشان انت خاسس"، وهذه تقول لصديقتها: "انتي ليه ماجربتيش أقراص كذا، دي بتخسّس وش!"، وهذا يقول لطلابه: "انتوا لازم تكتبوا عناصر موضوع التعبير قبل ما تبدأوا تكتبوا الموضوع حتى لو كنت اخترت القصة"، وهذا يقول لابنه: "انت لازم تبطّل تدريب الكورة في ثانوية عامة وترجع التدريب بعدين عشان مستقبلك مايضيعش"، وهذه تقول لبنتها: "انتي لازم تتحجبي عشان يجيلك عريس" أو "انتي ليه مارحتيش تسلمي على فلان ومامته في الفرح عشان ياخد باله منك؟!"، وهذه تقول لصديقتها: "انتي لازم تعملي عليه مقلب في التليفون وتخليني أعاكسه عشان تشوفي هو عايزك بجد وللا بيتسلّى!"، وهذا يقول لخطيبته: "انتي لازم تديني باسوورد الفيسبوك بتاعك زي كل الناس اللي بيحبوا بعض" أو "انتي ليه ماشلتيش كل الولاد من عندك عالفيسبوك لحد دلوقتي مع اننا مخطوبين من شهر؟!".. وحتى بعد أن نكبر ونهرم ونشيخ ونكون قد اكتسبنا خبرات وخبرات، يظل المجتمع يحاصرنا بدوامات وسيول "لازم" الجارفة التي لا تنتهي، مثل: "انت لازم تتجوز عشان حد يخلي باله منك، ولادك كلهم اتجوزوا والحياة واخداهم"، أو "انتي لازم تقفي جامد لحماة بنتك عشان دي شايفة نفسها عليكم قوي"، أو "انت ازاي مالاحظتش لحد دلوقتي ان مرات ابنك مش بتحب ولادها يجولك؟!". وحتى بعد وفاتنا قد لا ننجو من نظرية "لازم"، فيمكن بمجرد مواراة جثاميننا الثرى أن يقول أحد المشيعين: "الله يرحمه بقى، كان لازم يكتب وصية بدل الحرب اللي حتحصل"، أو "انا مش عارفة بس هو ليه ماباعش الذهب قبل ما يرخص؟!". وهكذا. ورغم أن بعض تجليات النصائح اللازمية هذه تكون صحيحة ومفيدة، إلا أنه حتى في تلك الحالة لا يحق لصاحب النصيحة أن يفرض عليك نظرية "لازم" أو أن يقول لك: "هو كده!" أو "كل الناس بتعمل كده، مش معقول انت يعني اللي هتخترع!" أو "لو ماعملتش كده أنا مش حعرفك تاني". فالنظرية التنميطية الفظيعة تتجاهل تفاصيل حياة كل فرد فينا، وقدراته، وظروفه، وكل خصوصياته. كان عالم الاجتماع الفرنسي الشهير إيميل دوركهايم (المولود في 1858 والمتوفى في 1917، والذي أشرف على رسالة عميد الأدب العربي طه حسين للدكتوراة بجامعة مونبلييه)، هو أول من تحدث عن القيم العضوية في المجتمع وأول من وصف المجتمع بأنه كائن عضوي متفاعل وصاحب إرادة تفوق في قوتها وتأثيرها وقدرتها على التحييد والقمع إرادات كافة الأفراد الذين يعيشون فيه مجتمعة. وتحدث دوركهايم في مقالات وبحوث كثيرة عن أن الأعراف التي يقوم الأفراد بتشكيلها في جيل ما تصبح لازمة بالنسبة لهم لأنهم يدركون مغزاها وأهميتها وفوائدها وأسباب نشوئها، ولكنها غالبا ما تصبح جبرية بلا منطق بالنسبة للأجيال التالية في نفس المجتمع لأنه ليس من السهل على غالبية أفراد تلك الأجيال التالية معرفة مغزى تلك الأعراف التي ما إن يحاول أحدهم خرقها حتى يشبعه المجتمع عقابا، سواء بالتوبيخ أو بالتهميش أو بالتصنيف والتشويه، بحيث يذعن الفرد "الخارق" في النهاية لمشيئة المجتمع ولأعرافه ويصبح نمطيا يعيش الحياة بمنطق "هو كده". ولا شك أن دوركهايم لو كان يعيش بيننا في مصر الآن كان سيكتشف بنفسه لأي مدى كانت مقولاته تلك صحيحة في وقتها وصحيحة إلى اليوم، في مصر وربما في فرنسا.