السياسة كاللغة، قد تحتمل فعل مبني للمجهول، لكنها أبدا لا تحتمل فعل بلا فاعل. ولقد كان درس الموجة الأخيرة من الثورة المصرية أنها أسقطت ثلاثة أنظمة: أولهم نظام رأسمالي سمته الرئيسية هي زواج رأس المال بالسلطة، والثاني نظام عسكري عرض ثقة الشعب في الجيش للخطر بإطالة مدة حكمه لمرحلة انتقالية، وهذا هو أخطر تهديد للأمن القومي، والثالث نظام ديني فاشل ومستبد، ولم يعد من شك في كونه عميل. وبالتالي فإن التشكيك في صدق نوايا الجيش المصري إبان أحداث الموجة الثانية من الثورة المصرية؛ وتصويره بالانقلابي المحتال الساعي إلي السلطة، وليس البطل المغوار الحامي للشرعية الحقيقية "شرعية الإرادة الشعبية" ؛ هو بالقطع يصب في مصلحة الجماعة المعزولة -والمحظورة أيضا- ومن تبعتها هذه الجماعة من قوي دولية، بات نجاح الثورة المصرية في الوصول إلي الحكم يهدد مصالحها في المنطقة. وقد نال الفريق عبد الفتاح السيسي احتراما شعبيا ودوليا منقطع النظير، لأنه كان رمزا لهذه الحماية العسكرية لإرادة الجماهير، ولانحياز جيش مصر لشعب مصر مرتين في أقل من ثلاثة أعوام، خصوصا أن المرة الأولي كانت ضد قائد عسكري منتصر في حرب تاريخية ضد عدو تاريخي، وأنه في المرة الثانية أحبط -وهو يعلم- مخطط أقوي دولة في العالم للسيطرة علي المنطقة وإعادة تقسيمها. إذن الحديث عن ترشح الرجل للرئاسة -ليس فقط- يخفض أسهمه شخصيا، وينزل به من مكانة البطل الشعبي إلي مستوي "المتلهفين على الكرسي"، ولكن أيضا يسئ إلي سمعة الثورة، ويعرض مصر كلها إلي تغيير تام عن صورتها في أعين الرأي العام العالمي، مما يفقدها موقعها القيادي في المنطقة والعالم، والذي استعادته بعد موجة الثورة الأخيرة في 30 يونيه؛ إذ أن نجاح رجل عسكري -أي رجل عسكري، وخصوصا الفريق السيسي- في انتخابات الرئاسة القادمة يشكك في مصداقية الجيش، ويطعن علي الانتخابات القادمة قبل أن تبدأ، كما يعيد وصف أحداث 30 يونيه بأنها مجرد انقلاب دموي تم التخطيط له، واستغلال القوي الوطنية والشباب الثوري لتحقيقه، بل والدفاع عنه أيضا، وليس ثورة حقيقية أو موجة ثانية من ثورة انحني لها العالم. وحين يتزامن هذا الحديث مع تسجيلات صوتيه، يقول المنطق أن تصديقها لابد وأنه فقط من باب الهبل والخبل -إذا لا يعقل أن يجرؤ من يقوم بالتسجيل لوزير الدفاع، وإن وجد فلا يعقل ألا يحتاط رئيس جهاز المخابرات الحربية السابق لذلك -خصوصا في وجود صحفيين- فإن هذا يؤكد ضلوع أصحاب المصلحة في التشكيك في مصداقية الجيش في هذا التلفيق، فلا تجد ما تقول للفريق السيسي نفسه سوي: يا سيادة الفريق لقد قطعت رأس الأفعي ولكن ذيلها أيضاً مسموم؛ فلا تترك من الحية حياََ.. يا سيادة الفريق إننا نثق في وطنيتك، وذكائك، وقدرتك ورجالك علي حفظ الأمن القومي، فأتم ما أمرك به شعبك يوم فوضك.