لم أجد توصيفاً للعصر الذي نعيشه أفضل من “عصر الثورة”، فلأول مرة في التاريخ تندلع الثورة في عدة أقطار في وقت واحد، لتشمل مساحة بحجم المنطقة العربية، في حالة مشابهة للثورات على الاستعمار التي اندلعت في الخمسينات والستينات وامتدت حتى السبعينات من القرن الماضي، والفرق أن ثورتنا أعنف، وجذورها الشعبية أعمق، ولا أحد قادر على التصدي للشعب، كما أن من دعوا لخروج الشعب في 25 يناير أقل من أن يقودوا ثورة في اللحظة الراهنة، رغم أنهم حددوا موعدها على الفيس بوك، ثم اكتشفوا أنهم كانوا أدوات لأضخم موجة ثورية في التاريخ، بدأت من أضعف حلقات النظام العالمي، وبسبب سخونة الأحداث عندنا، لا نرى بوادر الموجة الثورية التي تلوح في أقطار عديدة بالعالم، ولاسيما اليونان وأسبانيا، وفرق كبير بين أن نكون مجرد أداة، وبين أن نجعل الموجة أداة لنا، أما أن نقود الثورة لبناء مجتمع قائم على الحرية الإنسانية، فهذا يحتاج إلى مجهود كبير وفهم عميق. اتخذ الإسلاميون الثورة في مصر مطية للمشاركة بقوة في ترتيبات إعادة بناء السلطة، ورأينا ملامح فاشية في تحالف فلول النظام وفي المقدمة المجلس العسكري مع الإسلاميين، تم توجيهها بشكل أساسي ضد الشرائح المطالبة بحقوقها في الثروة والسلطة، فلن يدخل التحالف المقدس في خصومة مع أصحاب المليارات من أجل عيون الفقراء والعمال، وبدلاً من أن يفكر المجلس في ملايين الشقق المغلقة، والثروات المتراكمة لدى رجال الأعمال، قرر مواجهة الفقراء، مكتفياً بكبش الفداء المتمثل في مبارك وعشرات من حاشيته، في سبيل إنقاذ بقية الطبقة الفاسدة والمتبقي من نظام ديكتاتوري، مرشح للتحول إلى فاشية دينية أو عسكرية، وحتى هذا الكبش، يفكرون مع السعودية “قبلة الرجعيين بالمنطقة”، في كيفية إنقاذه، ومن أجل هذا تطول الإجراءات حتى يدبروا المخرج الملائم، ومن أجل هذا أيضاً تتزايد هجمة الفاشية على احتجاج الفقراء، والمطالبين بالقصاص لدم الشهداء، ولن يكون آخرها اعتداء الثلاثاء 28 يونية. والمؤيدون لهذه الفاشية صنفان، صنف مستفيد منها وهم التحالف سالف الذكر، وصنف غير مستفيد ويرى ضرورة منح السلطة فرصة كي تعمل ثم نحكم على أعمالها، دون أن نتحرك في إضرابات أو احتجاجات ضد الفساد والظلم. المنتمون إلى النوع الأخير بدأوا في تغيير نظرتهم مع الوقت، لأنهم يكتشفون أن عصام شرف وأعضاء حكومته غير قادرين على مجرد تنظيم المرور، بل وغير قادرين على الحوار مع بعضهم البعض، فهل نأمل منهم حواراً مع الشعب. وبدلاً من حوار عميق مع الثوار والمعتصمبن، فضل شرف الحوار مع رجال الأعمال، فاستجاب لمطالبهم بإلغاء ما ورد في الموازنة العامة من ضريبة على الأرباح الرأسمالية، دون حاجة لأن يعتصموا أو يرفعوا صوتهم عالياً، رغم أن الضريبة ستقتطع فقط جزءاً من أرباحهم التي يراكمونها منذ عشرات السنين، بينما يرفض مطالب العمال الذين بح صوتهم واضطروا للاعتصام، لأن ارتفاع الأسعار يخصم من طعامهم ومسكنهم وملبسهم، وخرج علينا بموازنة يدفع فيها المنتجون ثلاثة أضعاف الضرائب التي يدفعها المليارديرات. وفي الخارج أعلن شرف تأييده لعمليات درع الجزيرة لقمع الثورة في البحرين، ليمنحه أصدقاء مبارك في الخليج بعض الاستثمارات، رغم أن بلادنا متخمة بالثروات المتركزة في أيدي الأقلية، فالتنمية في بلادنا لا تحتاج لمعونات ولا قروض، فقط تحتاج العدل. الثورة لم تنته، وإنما بدأت، ومن أهم سمات العصر الثوري، تسارع التاريخ، وهي سمة العصر الرأسمالي كله، لكن هذا التسارع يتسارع أكثر في عصر الثورة، وتتبدل بسرعة حالات المد والجزر الثوري، والطفرة في حركة الشعب المصري أيام 25 و28 يناير أكبر دليل على ذلك. والمعتصمون والمضربون يكشفون كنه الشعارات الدينية والمدنية، وأنها ليست إلا أقنعة في الصراع على الكعكة التي يصنعونها هم، خاصة عندما يرون تردد المتصارعين في منع أعضاء الحزب الوطني من المشاركة في الكعكة، عبر التردد في منعهم من حقوقهم السياسية التي يبحثون من خلالها عن مصالح طبقتهم، وذلك ببساطة لأن جميع المتصارعين من طبقات متقاربة، بينما لا يترددون في محاولة حرمان صانعي الكعكة من حقوقهم السياسية، المتمثلة في سلاحهم الجماعي الأهم للدفاع عن مصالحهم، وهو الإضراب والاعتصام. ويشعر العمال وقطاعات من الفقراء أنهم إذا لم ينتزعوا حقوقهم في هذه الفترة، فلن يحصلوا عليها أبداً بفعل الفاشية المتنامية، ويجب أن يعي أنصار الدولة المدنية أنهم لن يستطيعوا إنقاذ الثورة من الفاشية، إلا بالكف عن المباراة الهزلية بين الشعارات المدنية والدينية، والالتحام بأهم أعداء الفاشية وأكثرهم قوة، وهو أكبر تنظيم شعبي نشأ في السنوات الأخيرة واتسع أكثر مع الثورة، تنظيم المعتصمين والمضربين، هم الأكثر وعياً، لأنهم غير مخدوعين بأي شعارات، ولا يلونون حقوقهم ومصالحهم بألوان وطنية أو دينية. لكن الشعب لا يميل إلى مواجهة مع المجلس العسكري، ليس ثقة في هذا المجلس، ولا خوفاً من قبضته، فقد كشفت احداث 9 مارس الكراهية المتنامية في صفوف الضباط والجنود تجاه المجلس العسكري، وأن المؤسسة العسكرية مهددة بثورة من داخل الجيش، وإنما لأنه لا يرى قيادة محددة، ولا يلمس قوة يثق بها تقود المواجهة مع المشير. لو استطعنا جمع المعتصمين والمضربين وقوى الاحتجاج المتفرقة التي تخوض حرباً شرسة ضد الفساد في كل مؤسسات وأرجاء البلاد، حول مطالب وفعاليات موحدة متماسكة، سيكونون نواة تتجمع حولها قوى الاحتجاج المتنامية، لتستوعب أي انفجارات مفاجئة فتنتشلها من فوضويتها وتفتح لها أفق الوعي والنضال السياسي المنظم، فبإمكان هذه الحركة الاحتجاجية أن تتطور في وعيها السياسي وقوتها، لتكون بديلاً حقيقياً للفاشية التي تلوح في الأفق. أتحدث عن معارك طويلة الأجل، فالثورة حققت أحد مطالبها بإزاحة مبارك، عبر تحالف ديمقراطي واسع بين كل المستفيدين من إزاحته وفيهم انتهازيون وفاشيون، أما تحقيق بقية أهداف الثورة بتغيير النظام والعدالة الاجتماعية، فيحتاج إلى تحالف آخر ضد التحالف المسيطر الأن، والذي كلما شعر بمأزقه ازدادت وانكشفت فاشيته، ومأزقه ناتج من أنه بطبيعة تكوينه لا يجوز له مواجهة رجال الأعمال وانتزاع حقوق الفقراء والعمال منهم، سواء في المرحلة الانتقالية أو بعد الانتخابات-إذا أجروا فعلاً انتخاباتهم-فالمشكلة ليست في الانتخابات أو الدستور، فالحكومة اليونانية منتخبة والدستور هناك نموذج يحتذى به في كفالة الحقوق، ورغم ذلك يزداد الصراع شراسة كل يوم بين الحكومة المنتخبة وجماهير الفقراء والعمال والعاطلين، فالأزمة تخنق العالم كله، وليس للثورات في بلادنا وخارجها والناتجة عن هذه الأزمة سوى طريقين، إما أن تلبي مطالب الشعوب بتغييرات جذرية في نمط الإنتاج الرأسمالي الذي ينتج الأزمات، وإما أن تسير في طريق الفاشية.