يحتدم الخلاف في مصر الآن مشتعلا، حول المفاضلة بين وضع الدستور الجديد لمصر، الذي يضمن نيل غايات ثورة شعب مصر الفل في الحرية والعدل والكرامة الإنسانية، قبل إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية، وبين تفضيل المجلس الأعلى للقوات المسلحة وتحالف التيارات الإسلامية المتشددة الذي يصمم على انتخاب مجلس الشعب والشورى أولا وقيامهما مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الحاكم خلال الفترة الانتقالية، بالإشراف على وضع الدستور الجديد. ومن الضروري توضيح أن الفريق الأول سعى دائما لتقديم حجج منطقية وأصولية لتدعيم وجهة نظره بينما لجأ الفريق الثاني للترهيب والترويع بدعوى أن الفريق الأول يعتدي على رأي الأغلبيية في الاستفتاء على التعديلات الدستورية، مع التلميح بأن الخيار “الإسلامي” وحتى “الضامن لدخول الجنّة” هو انتخاب المجلسين أولا، تماما كما حدث أيام الاستفتاء على تعديلات لجنة المستشار البشري التي كانت محل الاستفتاء. ونكتفي هنا بالإشارة إلى أن الدستور هو، في الأساس، تعاقد بين المواطنين ينظم شئون الاجتماع البشري في البلد، ومن بينها العلاقة بين المواطنين والحكم باعتباره تكليفا من الشعب لبعضه، أفرادا وعلى صورة مؤسسات، بالسهر على المصلحة العامة والخضوع للمراقبة والمساءلة إبان تولي المنصب العام وبعده. ومن ثم، فإن الدستور يتعين أن ينظم، على وجه الخصوص، شئونا تتعلق بانتخاب أعضاء المجلس النيابي ورئيس الدولة وباقي المناصب العامة، ومراقبتهم ومساءلتهم. وقد قفزت لجنة المستشار البشري والمجلس على هذا الترتيب المنطقي، في تعديلات الدستور وقوانين الأحزاب ومباشرة الحقوق السياسية، بما يحقق مزايا غير عادلة لتيار الإسلام السياسي المتشدد، المتمثل أساسا في جماعة الإخوان المسلمين والتيارات السلفية، ولأصحاب المال الكبير، ليس فقط في المجلس التشريعي القادم ولكن في مستقبل البنية القانونية والمؤسسية للحكم في مصر بوجه عام التي سيقوم مجلس الشعب القادم على صياغتها. ويتعين أن يكون واضحا وجه العوار المنطقي والقانوني الكامن في أن تشرف مؤسسة ما على صوغ القانون الأسمي، الذي ينظم، بين ما ينظم، هذه المؤسسة ومساءلة أعضائها، سواء كانت تلك المؤسسة هي المجلس التشريعي أو القوات المسلحة. ولا يقل أهمية أن تتغلغل في الدستور الجديد توجهات الإسلام المتشدد بالانتقاص من الحقوق المدنية والسياسية للنساء وغير المسلمين افتئاتا على بعض المبادئ الفوق الدستورية المستقرة من عدم جواز التمييز بين البشر في حقوق الإنسان،خاصة الحقوق المدنية والسياسية للمواطنين. ولا في أن تشوب الدستور الجديد أن توجهات نظام الحكم المتسلط والفاسد الذي أسقطته الثورة في التمسك بالتنظيم الاقتصادي المحابي للرأسماية الاحتكارية المنفلتة، والتي أنتجت شرور البطالة والفقر والقهر والاستقطاب الاجتماعي الحاد تحت النظام الساقط. والحق أن ليس من حق المجلس العسكري أو التيارات الإسلامية الادعاء بقدسية التعديلات الدستورية التي إستفتي عليها. فقد استحل المجلس إصدار الغالبية الساحقة من إعلانه الدستوري، بما في ذلك تلك التي منحت المجلس سلطات تشريعية وتنفيذية مطلقة، من دون أي استشارة شعبية، كما استباح المجلس تغيير نص المادة 189ب من التعديلات الدستورية التي اقترحتها لجنة المستشار البشري على المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وحظيت، في مجملها، بموافقة شعبية ضخمة، وإن كان مشكوكا في مصداقيتها لأسباب عديدة ليس أقلها الاستفتاء على عديد من الموضوعات المتفرقة بسؤال واحد، أو تحويل الاستفتاء من قبل التيارات الإسلامية المتشددة إلى تعبير عن الإيمان أو الرغبة في الاستقرار أو تصويت على دخول الجنة. حيث في المادة 60 من الإعلان الدستوري التي تقابل المادة المشار إليها أعلاه، تغيّر النص الذي حظي بالموافقة في الاستفتاء ليقتنص للمجلس العسكري ومجلسي الشعب والشوري المنتخبين مستقبلا، ومن دون وجود رئيس منتخب، الإشراف على وضع الدستور الجديد، ما يعني تغييرا في موضوع النص مفاده تأجيل انتخاب رئيس الدولة إلى ما بعد وضع الدستور، وليس إجراء شكليا! ولم ينبه المجلس لهذا التغيير إبداء لحسن النية أو لإبراء الذمة، ولم تعترض التيارات الإسلامية المتشددة على هذا التحريف لنص استفتي عليه ووفق عليه، ما يعني موافقة ضمنية على انفراد المجلس الأعلي للقوات المسلحة مشتركا مع مجلسي الشعب والشوري القادمين، بالتكوين المختل المتوقع، بالإشراف على وضع الدستور الجديد، بما يحمله ذلك الوضع من مساوئ جلية قد تصبغ الدستور الجديد بصبغة مناوئة لنيل غايات الثورة. ولكن، بمنطق تبيّن الصالح في الطالح، يمكن للمجلس بالأسلوب نفسه إصدار تعديل للمادة 60 من الإعلان الدستوري على النحو التالي” :يقترح المجلس العسكري والحكومة هيئة تأسيسية لوضع الدستور الجديد مكونة من مائة عضو يمثلون جميع أطياف المجتمع المصري، وينشر المقترح في جميع وسائل الإعلام لتلقي الآراء عليه لمدة أسبوع. ويصدر المجلس والحكومة تشكيل الهيئة المنقح بناء على آراء المواطنين، ويكلفها بوضع مشروع الدستور الجديد خلال ثلاثة شهور” مثل هذه المادة يمكن أن تصدر في ساعات قليلة، ويجري وضع الدستور خلال ثلاثة شهور ويستفتي عليه، وتجرى الانتخابات التشريعية والرئاسية قبل نهاية العام الحالي. وتتحقق، حال نفاذ هذا البرنامج، من ثم، رغبة المجلس الأعلى للقوات المسلحة في تسليم الحكم لمؤسسات منتخبة، على أساس دستوري سليم، قبل نهاية العام الحالي، كما ينعم شعب مصر بحماية طريق ثورة الفل على مسار الاكتمال.