بالغ العلماء والفقهاء في الترهيب والتحذير من الدخول في ولاية القضاء ، وشددوا في كراهية السعي فيها ، ورغبوا في الإعراض عنها ، وكثرت وتعددت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن . وقال أبو قلابه : ” مثل القاضي العادل كالسابح في البحر ، فكم عسى أن يسبح حتى يغرق ؟ ” وهرب إلى مصر لما طلب للقضاء ، فلقيه أيوب فأشار إليه بالترغيب فيه ، وقال : ” لو ثُبت لنلت أجرا عظيما ” . فقال له أبو قلابه : الغريق في البحر إلى متى يسبح ؟ .وحديث أبو قلابه هو في حق من علم في نفسه الضعف ، وعدم الاستقلال بما يجب عليه ، وكذلك من يرى في نفسه أهلا لشيء لا يراه الناس أهلا له ، فهروب من كان بهذه الصفة عن القضاء واجب ، وطلب السلامة لنفسه أمر لازم . يقول ” ميرابو ” خطيب الثورة الفرنسية العظيم ” الناس في حاجة إلى القضاء ما عاشوا ، فإذا فرض عليهم احترامه ، لزم أن يحسوا أنه محل ثقتهم وموضع طمأنينتهم ” . فاحترام الناس للقضاء من ثقتهم فيه ، وهيبته وجلاله من عدله ونزاهته ، فإذا لم يثق الناس في القضاء ، وفى عدله ونزاهته ، فلا عدل ولا قضاء وعلى الدنيا السلام . وحرصا من المشرع المصري على هيبة القضاء وعدم المساس به ، وعلى أن يكون دائما موضع ثقة الناس ، وموئلهم وملاذهم ، نص في المادة 150 من قانون المرافعات على أنه يجوز للقاضي إذا استشعر الحرج من نظر الدعوى أن يتنحى عن نظرها ، وتنحى القاضي من نظر الدعوى طبقا لهذه المادة ، ولئن كان مرده إلى ما يعتمل في ضميره ، وما يستشعره وجدانه من حرج ، دون رقيب عليه في ذلك ، إلا أن يجب على القاضي أن يتنحى من نظر القضية في كل الأحوال التي يثور فيها الشك حول قدرته على الحكم في الدعوى بغير ميل أو هوى ، أو ظن الناس فيه ذلك ، لأن الأمر في هذه الحالة لا يتعلق بالقاضي وحده وإنما بثقة الناس في القضاء ، وهيبته وجلاله . وأظن أن نزاهة وحيدة القاضي عادل عبد السلام جمعه في نظر قضايا الفساد الأخيرة ، وقضية قتل المتظاهرين المتهم فيها حبيب العادلي وكبار ضباط وزارة الداخلية ، أصبحت محل شك كبير ، فقد كتب الدكتور حسن نافعة ما كتب في المصري اليوم عنه ما يمس سمعته ونزاهته ، وكتب الأستاذ فهمي هويدي عنه ما كتب في الشروق ، وعلت الهتافات من عامة الناس بميدان التحرير مطالبة بإبعاده عن هذه القضايا ، ورغم كل ما كتب وما قيل ، لم يتخذ مجلس القضاء الأعلى القرار بإبعاده عن نظر القضايا المشار إليها ، حرصا على هيبة القضاء وجلاله وثقة الناس فيه ، ولم يقم القاضي المذكور بنفسه بالتنحي عن نظر هذه القضايا حرصا على سمعته ، ودرءا للشبهات ، ولا ندرى سببا لعدم تنحيه ، فأي ضرر أقسى وأمر على القاضي من أن تكون نزاهته وحيدته محل شك من الناس ، وسيرته ومسيرته ، وسمعته وكرامته ، مضغة في الأفواه ، وأي ضرر يلحق بالقاضي وبالقضاء إذا كان الناس يرون أن القاضي غير أهل للقضاء ... فهل يحفظ القاضي المذكور على نفسه سمعتها ، وهل يحفظ للقضاء هيبته وجلاله ويتنحى .... نائب رئيس محكمة النقض