أخيرا بعد سبعة عشر يوما متنقلا بين المحافظات المختلفة تنتهي مأموريتي، ومن حقي العودة للبيت ولمدة يومين كاملين، بعيد عن العمل، أقضيهما مع زوجتي وولدي ذو الثلاث سنوات مازن والذي تُسرق مني أيام طفولته وملامح تكوين شخصيته. تسعد زوجتي وتطرب لسماعها نبأ عودتي اليوم، أسألها: - هو الولد هيبقى صاحي لما أرجع ؟ فترد: - إن شاء الله.. ده ح يموت ويشوفك، أنا ح أخليه يفضل صاحي.. أنت قدامك قد إيه؟ - ساعتين كده، يعنى على 12 ، حاجة زي كده . - طيب توصل بالسلامة يا حبيبي. أصل المنزل منهكاً فتستقبلني زوجتي بحضن دافئ وهي تخفي دموعا تساقطت منها من لوعة الاشتياق وتقول: - يا رب ارحمنا من الشغلانة دي، في الشهر أشوفك يوم ولا اتنين بالكتير؟ .. ده حرام. أهون عليها الأمر.. - معلش .. بكره تتعدل. وأدفن رأسها في صدري قبل أن تنهمر دموعها من جديد. - معلش يا حبيبتي . أسألها عن مازن فتخبرني أنه نام منذ قليل . أترك حقيبة ملابسي وأدخل لأستحم ريثما تحضر لي هي الطعام، وبينما أنا في الحمام إذا بنداء الصغير من وراء الباب . - بابا أنت جوه ؟ أسعد جدا لسماع صوته وأرد متلهفاً: - اه يا حبيبي ح أطلع لك دلوقت ، ثواني. - طيب بسرعة أصل أنت واحشني أوي، هو أنت ح تلعب معايا.. ؟ ح توديني بكرة الحضانة ؟ تتدخل الأم مقاطعة: - سيب بابا يا مازن يستحمي ولما يخلص كلمه، عيب نكلم حد وهو في الحمام. يتجاهل مازن كلامها لأول مرة أمامي ويحدثني ثانية بإسم اخترعه لي: - حوسكا.. أنت جبت لي حاجة حلوة؟ - آه يا حبيبي، وجبت لك كمان لعبة جميلة. أسمع صوت قفزاته وهو يصيح فرحا : - هييييه هيييه! أنا بحبك قوي يا بابا، خلص بقى يلا. - أنا قربت آهو . مين ح ياخد بابا بالحضن أول ما يخرج؟ فيرد بصوت متحمس: - ميزو، أنا مستنيك بقى . أنت بتلبس؟ - حالاً يا حبيبى قربت أخلص. كنت قد أوشكت على الانتهاء . أزيل عن جسدي بقايا اغتراب أعيشه طوال أيام العمل، ولا يصبرني أحد عليه بقدر ما يفعل وليدي. أرتدي ملابسي وأخرج للقاءه فأجده ملقى على الأرض بجوار باب الحمام يغط في النوم. أحمله وأهدهده بين يدي وأحتضنه بشدة ثم أدخله إلى سريره وأقبله قبلتين وأتركه للقاءنا في الصباح. أتناول الطعام مع زوجتي وهي تخبرني بأحوالهما في المنزل وكيف يقضيان الأيام في وحشة من دوني وتخبرني عن احتياج الولد المتزايد إلىّ وكيف أصبحت تصرفاته أكثر عدوانية وعصبية هذه الأيام، وبينما هي تحكي يرن هاتفي. إنه مديري في العمل، أحضر في ذهني أهم النقاط التي سأتناولها في الحديث معه عن مأموريتي المنتهية حتى أقدم بتقريري له فيما بعد. يفاجئني بطلبه أن أتوجه للعمل فجراً، لأن هناك مأمورية جديدة لا تحتمل التأجيل والتأخير. - ما ينفعش يا باشا أنا لسه ما شفتش إبني حتى، أنا راجع بقي لي ساعتين، إزاي يعني؟! تزوم زوجتي وتتحجر عيناها قبل أن تترقرق الدموع فيهما سريعاً وهي تراني مستسلماً قليل الحيلة . أرد: - حاضر يا باشمهندس .. حاضر. تسبقني زوجتي بنفس استسلامي لتحضر لي حقيبة سفري من جديد، آخذ لعبة ولدي من الحقيبة وكيس الحلوى وأضعهما على السرير بجواره ، أقبله وتدمع عيناي.