خلق الله الإنسان وكرمه ، وسخر له ما عداه من المخلوقات ، ومنذ أن عرفت الدولة كنظام اجتماعي وسياسي والإنسان أهم مقوماتها ، بل هو كيانها ، ولذلك تقف الدولة نفسها على سعادة الإنسان فيها وحفظ كرامته وآدميته ، وتنص كافة الدساتير والقوانين في مختلف دول العالم على ما يكفل كرامة الإنسان فيها ، وتفرض العقوبات على من يعتدي على حق من حقوق الإنسان ، أو ينال من كرامته ويهدر آدميته ، وتعمل على توفير الضمانات لحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية . واستقلال القضاء والحصانة القضائية لرجاله ليست مزايا شخصية للقضاة وأشخاصهم ، بل هي حق من حقوق الإنسان ، حقه في قضاء قوى نزيه ، محايد أمين ، يصدر أحكامه بالعدل غير خائف ولا وجل ، غايته العدل ، والعدل المجرد . كذلك فإن الحق في المحاكمة العادلة حق من حقوق الإنسان ، فهو أحد المبادئ واجبة التطبيق في شتى أرجاء العالم التي اعترف بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 ، وأصبح هذا الحق التزاما قانونيا واقعا على جميع الدول ،وأكده العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1966 . فالحق في المحاكمة العادلة ضمانة أساسية لحماية الأفراد من التعرض للعقاب دون وجه حق ، وضرورة لا غنى حتى لا يتعرض الإنسان لحرمانه من حقوقه الأساسية . فكل محاكمة جنائية تراعى فيها المعايير الدولية للمحاكمة العادلة ، تدل على احترام الدولة لحقوق الإنسان . أما عندما تسمح الدولة بالظلم أن يشوب المحاكمات الجنائية ، أو يدان الأبرياء بجرائم لم يرتكبوها ، أو تحيد المحاكم عن العدالة في نظر القضايا ، أو يبدو الأمر كذلك ، يفقد النظام القضائي مصداقيته ، وما لم تصن حقوق الإنسان تكون الحكومة قد أخفقت في أداء واجباتها ، وخانت المسئوليات التي أنيطت بها . وتقوم منظمة العفو الدولية ، وغيرها من المنظمات المعنية بحقوق الإنسان برصد المحاكمات الجنائية ، حتى أصبح وضع مراقبين دوليين لرصد المحاكمات قاعدة قانونية دولية ، وعرفا راسخا مقبولا لدى المجتمع الدولي . وما يحدث في مصر الآن من محاصرة المحاكم بالمظاهرات والهتافات ، والضغط على القضاة ، والاندفاع في الغضب ، والمضي مع الحماس الجارف الذي يأتي على كل شئ فيبيده ويفنيه ، ويهدد العدالة باقتلاعها من جذورها ، ذلك بأنه بالرغم من الفوارق بين جمهور المتظاهرين وتنوعهم ، واختلافهم في الثقافة والمعرفة والإدراك ، يتملكهم شعور واحد ينتقل إليهم جميعا بطريق العدوى ، وهذا الشعور يؤدى إلى الحكم على المتهمين قبل أن تقول المحكمة كلمتها ، وهذا هو ما يسمى بحكم الرأي العام ، الذي يخشى من تأثيره على القضاة فينال من استقلالهم ويهدمه ، إذ يجعلهم ينطقون بطريقة آلية بما يتفق عليه الجمهور ، مع أن حكم الجمهور في المسائل القضائية ليس أساسه فحص الأوراق والمستندات ، وتحقيق الوقائع ووزن الأدلة والبراهين ، بل أساسه العواطف تارة ، والقسوة تارة أخرى ، فالقائمون على القضاء بين الناس يجب ألا يهتموا في قضائهم برضاء الجماهير عنهم ، أو سخطهم عليهم ، وحسبهم إرضاء ضمائرهم ، وكفى بهم رضاء الله . ونحن على يقين من أن الشعب المصري يدرك أن قضاة مصر جزء من هذا الشعب العريق ، قد آلمهم ما لاقاه أبناء هذا الشعب وما قاساه من آلام القتل والتعذيب والإذلال والتنكيل ، كما هالهم وراعهم حجم الفساد الذي كشفت عنه الثورة من سرقة أموال الشعب ، والاستيلاء على أراضيه بغير حق ، ونهب ثرواته . كما أننا على يقين أيضا من أن الشعب المصري يدرك تماما ، أن الطغاة في العهد البائد كانوا في طغيانهم واستبدادهم ، ورغم ما كان بيدهم من آلات البطش ، وآلات ومعدات الطغيان ، واثقين أن القضاة لن يناصروا غير العدل ، وأنهم أضعف من أن يواجهوا القضاء العادل القوى الأمين ، ولذلك عمد الطغاة إلى تجنب القضاء والتقليل من شأنه ، ونزع ثقة المواطنين فيه ، بإهدار قدسيته وجلاله ، وعدم تنفيذ أحكامه ، وكانوا في هذا كله يتعاونون مع وزراء للعدل من ذوى المآرب المشبوهة ، وكان أقل ما يوصفون به أنهم كانوا غير غيورين على العدل ، أو حريصين عليه ، بل كانوا حربا عليه وعلى رجاله ، ورغم ذلك كله لم يستطع هؤلاء الطغاة ومن معهم من وزراء العدل أن يرهبوا القضاة ، واستمر القضاة محافظين على تقاليدهم وذخرهم من النزاهة والقوة والحيدة والأمانة مما جعلهم القوة الوحيدة في تلك الفترة التي ظلت في نظر الشعب المصري وعقيدته الموئل والملاذ ، يشاركه آلامه ، ويخفف عنه أحماله ، وكان قضاة مصر أول من ثار وتصدى لظلم واستبداد النظام السابق عام 2005 . فهل نضع ثقتنا كما كنا دائما في قضائنا المشهود له في العالم كله بالحيدة والنزاهة ، ونكف عن محاصرة المحاكم بالمظاهرات والهتافات ، والتهديد والوعيد ، ونترك القضاة يعملون في هدوء وروية ، بعيدا عن ضغط الجماهير الغاضبة ، حتى تجئ أحكامهم موافقة للعدل المجرد ، وحتى يظل وجه مصر مشرق دائما بنور العدل ، والذي ظهر أول ما ظهر فيها منذ فجر تاريخها يوم أن كان يحكمها الفراعنة على أنهم الآلهة وأبناء الآلهة ، كان يمنع القاضي في مصر ” أن لا يطيع فرعونا إذا أمره أن يقضى بغير العدل ” ، ونتذكر دائما قول مارتن لوثر كنج ” الظلم في أي مكان يهدد العدالة في كل مكان ” . نائب رئيس محكمة النقض