يغيب عن الحضور طويلا وفجأة يقتحم المشهد هو صبرى السماك واحد من أبناء الجيل المحاصر بين صرخة السبعينات وفضاء الألفين ..هذا الجيل الذى إن صحت تسميته سنقول عليه أبناء الثمانينات والتسعينات وهو الجيل المغلوب على أمره فقد أعطى بأقصى ما يملك من طاقة وإمكانيات ولكن مع اختلاط الحابل بالنابل فى العهد المباركى والخلط المتعمد بين سقوط اشتراكية موسكو و ازدهار الاستبداد الرأسمالى الغربى وانتقال وسائل الاتصال إلى مراحل لم يتوقعها أحد .. هنا بالتحديد تم سحق جيل بأكمله وصبرى السماك واحد منه . فى نهاية الثمانينات يأتى السماك من الفيوم طالبا فى جامعة القاهرة يدرس الآداب ويلعن الحكومة التى تبيع يوميا ثروة الفقراء تلك الحكومة التى تنبطح أمام العدو الصهيونى وتنشب أظافرها الحامية فى جسد البسطاء والصوت الاشتراكى فى جامعة القاهرة ذلك الوقت يعلو قليلا ثم ينطفئ ... صوت لم يمت ولن يموت يبرز فى وقت الأزمة واضحا وحادا ثم ينزوى فى زمان الترهل والسماك القادم من الفيوم طالبا لم يأتى من فراغ فهو يعتز دائما بأن مرارة السجن تذوقها مبكرا فى القضية المعروفة بأحداث شغب سنورس عندما انتفض الأهالى عام 1985على قسم الشرطة احتجاجا على تعذيب أحد أبناء المركز والتنكيل به فى الشوارع كان عمر السماك يقترب من سبعة عشر عاما فهو المولود فى 19/3/1968 ولكنه كان متهما محترما فى أحداث الشغب سعيدا بموقفة مع آخرين لقيامهم بالتصدي لسلطة غاشمة. وتنتهى الحبسة مثل كثيرات غيرها ستأتى فى قادم الأيام و يسافر خالد محى الدين الأمين العام لحزب التجمع فى حينها وتسافر معه المناضلة شاهندة مقلد لتحية أبطال شغب سنورس وشد عزم الدكتور لطفى سليمان أمين حزب التجمع بالفيوم آنذاك لاستكمال المواجهة . فى تلك الأيام كان صبرى السماك تلميذا نجيبا لاثنين من الأبطال الشيوعيين وهما الكاتب شوقى عبد الحكيم والمناضل يوسف عبدالحميد حجازى حيث يعتز الأخير بأنه كان الحضن الأخير الذى ارتمى عليه شهدى عطية الشافعى قبل اغتياله فى المعتقل ويقول السماك عن أستاذه ” شاهدت بنفسى قدمى حجازى وأثر تعذيب الجلادين له فى معتقل الواحات ” ومن الفيوم يأتى صبرى السماك إلى القاهرة وقد تحددت إنحيازاته وهل نتوقع من أبناء العمال إلا أن يكونوا اشتراكيون ويضع نفسه واحدا من جيش الفقراء يعرف جيدا هو مع من ؟ ضد من ؟ ولذلك لم يكن غريبا أن يرمى بنفسه كرأس حربة فى طرقات الجامعة متظاهرا محمولا على الأكتاف ليهتف ضد الفساد والاستبداد ضد اللصوص وخصخصة المصانع وتشريد العمال يهتف و لا يكف عن الإبداع محميا بمحبة أصدقائه ومحصنا بقناعات لا تلين . مظاهرات جامعة القاهرة فى ذلك الزمان ارتبطت بالهم الوطنى العام مثل المطالبة بالديمقراطية وإلغاء حالة الطوارئ وضد حرس الجامعة الذين تغولوا داخل أروقة الجامعة وكانت الأحداث تتوالد كل عام وتنتج ما يستحق التظاهر ومنها اغتيال الجندى المصرى سليمان خاطر فى السجون المصرية و خطف الطائرة المصرية على يد سلاح الجو الأمريكى و السماك مع رفاقه يبتكر الأدوات المقاومة وكان من ضمن ابتكاراته داخل الجامعة تجربة ” الحاوى” حيث يتحلق حوله الطلبة ليقدم إرتجالات مسرح الشارع بالشعر والخطابة والحوار والتمثيل كوكتيل من المواهب الساخرة والمريرة فيقترب طلبة الجامعة أكثر وتتطور تجربة الحاوى ليتم ابتكار “الجرسة ” وهى التى كان يتأبط فيها السماك طبلة ليدق على إيقاعها منطلقا بين الكليات مع عدد قليل من رفاقه ويرد المتابعون الذين يزداد عددهم فتكون الفضيحة للنظام والحكومة و الجرسة تعتمد على خفة ظل القائد وكاريزميته وقبوله لدى الآخرين و السماك يتمتع بكل هذه الصفات لذلك استحق عن جدارة أن يكون هو الناظر فى مدرسة التجريس . فى هذه الأثناء والتسعينات تبدأ زاحفة يتم اختطاف عشرات الشباب كانوا فى طريقهم للمعرض للاحتجاج على مشاركة إسرائيل فيه و كالعادة صبرى السماك حاضرا ليزف مع رفاقه إلى سجن طره وأتذكر أن من بين المقبوض عليهم فى هذه الحبسة كان باسل رمسيس وأشرف ابراهيم ومحمود عبده ومن الفتيات كانت نوارة نجم ووردة كما تم القبض على عشرات غيرهم من حزب التجمع والحزب الناصرى وتيار الاشتراكيين والحزب الشيوعى المصرى وتنتهى سنوات الدراسة والجامعة ليحصل صبرى على ليسانس الآداب قسم الفلسفة عام 1993 ويبدأ صحفيا فى مهنة المتاعب الصحافة ولمدة عامين يساهم فى تأسيس تجربة ناضجة لم تستمر طويلا وهى تجربة جريدة الجمهور المصرى والتى رأس تحريرها الكاتب الصحفى مصطفى السعيد ومع توقف الجريدة لأسباب مالية وسياسية لم يقتنع السماك بالعمل فى الصحافة إلا بين مجموعة متفاهمة وهو اختيار صعب فكان طبيعيا أن تكون مقهى افتر أيت فى وسط البلد هى المقر المختار لصبرى السماك يلعب الكوتشينة ويشرب شايا على حساب المهزوم وقتها اعتقدت أن صبرى السماك ضاع إلى الأبد . ولكن الموهوب لا يضيع أبدا فيحفر السماك ثقبا فى جدار السينما لينفذ منه إلى شركة المخرج الكبير يوسف شاهين الذى يعجب بعطاء السماك و يمنحه فرصة الإبداع فى مجال الإنتاج وهى الفرصة التى مازال صبرى السماك قابضا عليها متطورا فيها فخورا بأنه أخر مدير إنتاج عمل معه يوسف شاهين . ولكن ما يعنينا فى قصة صبرى هو إن السنوات العجاف فى العمل العام تمضى وندخل الآن فى سلسلة المظاهرات المتلاحقة احتجاجا على العدوان الإسرائيلى اليومى على المدنيين فى الأراضى الفلسطينية المحتلة واحتجاجا على حصار بغداد الذى طال والتهديد الأمريكى اليومى للعراق فيخرج النشطاء للتظاهر ويأتى السماك كعادته مهرولا. وعندما يعلو صوته فى ميدان السيدة زينب بالهتاف قولوا لحاكم مصر وسوريا أمريكا بتخاف من كوريا هنا تعلن وزارة الداخلية خوفها من صبرى السماك وتقرر عقابه بالاعتقال ليكون السماك واحدا من أربعة كانوا من أوائل المعتقلين اليساريين لحركة التظاهر فى بدايات 2003 و الأربعة هم كمال خليل / إبراهيم الصحارى / صبرى السماك وللمفارقة كان رابعهم مجدى الكردى المواطن الغلبان الذى كان يروج لجمال مبارك قبل الثورة. والملاحظة الواضحة بعد قراءة هذه الأسماء نجد أن الأربعة نعتبرهم من قادة الهتاف الموهوبين وصبرى السماك بالطبع واحدا منهم ومن سجن طره إلى ميدان التحرير فالمسافة ليست طويلة ليصعد السماك محمولا على الأكتاف منشدا غناء الحرية الذى بانت بشائره فى 25 يتاير 2011 ويبقى للسماك شرف إبداع الشعار الذى رددناه جميعا ومازلنا وهو: ” قول يا مبارك يا مفلسنا إنت تعمل أيه بفلوسنا”