في ظل الأحداث المتسارعة التي تشهدها مصر منذ الثلاثين من يونيو وحتى الآن، انتقلت جهود محللي ودارسي العلوم السياسية في الغرب من مجرد تحليل الأوضاع القائمة وتفسيرها، إلى التنبؤ بمآلاتها، وطرح سيناريوهات مختلفة لتطورها. ولعل النقطة الرئيسية التي أصبحت مجالا للجدل بين المحللين تتمحور حول مستقبل الديمقراطية في مصر بعد تدخل المؤسسة العسكرية، وحسمها الصراع السياسي الدائر بالإطاحة بالرئيس "محمد مرسي" نزولا على رغبة الملايين الذين نزلوا للشوارع منددين بإخفاقات الرئيس على الصعد كافة خلال السنة الأولى من حكمه. يتساءل كثير من المحللين الغربيين عن مدى إمكانية عودة مصر إلى المسار الديمقراطي، وذلك من خلال استدعاء نماذج لانقلابات عسكرية في عدد من البلدان، والنظر إلى ما أعقبها من تطورات. وتتمحور الأطروحات الرئيسية في هذا الصدد حول ما إذا كانت تلك البلدان قد استطاعت تأسيس نظم ديمقراطية عقب هذه الانقلابات أم أنها سقطت في براثن التدخلات العسكرية والانقلابات المتكررة، ولم تستطع أن تعيد ترسيخ الديمقراطية كإطار مشروع للعمل السياسي. المؤسسة العسكرية والديمقراطية في النموذج التركي يرى مايكل كوبلو في مقاله بموقع مجلة "الشئون الخارجية" أن من الخطأ استدعاء النموذج التركي وتطبيقه على الحالة المصرية بعد الثلاثين من يونيو. فالبعض يعتبر أن الانقلاب العسكري في مصر قد يُفضي في النهاية إلى تطبيق الديمقراطية كما كان الحال في تركيا. فتركيا دولة علمانية ديمقراطية، ولم يَحُلْ تاريخ التدخلات العسكرية ضد حكومات ذات خلفية إسلامية بها دون تطبيق الديمقراطية. ولكن اعترض الكاتب على هذا الطرح، لأن النموذج التركي يثبت أن تطبيق الديمقراطية لم يكن بسبب تواجد الجيش، على الرغم من تدخله في العملية السياسية. فالقول بأن مصر قادرة على تحقيق الديمقراطية في ظل وجود الجيش كما هو الحال في تركيا يفترض أن المؤسسة العسكرية في تركيا كانت هي الضامن الرئيسي للديمقراطية العلمانية، ويعتبر أن الوصاية العسكرية على مدار سنوات كانت لها آثار إيجابية على الحياة السياسية. فوفقًا لهذا المنظور؛ ظل الجيش يمارس الرقابة على الحكومات المنتخبة حتى نضجت الديمقراطية التركية، وأصبحت قادرة على المضي قدمًا دون الحاجة إلى أي تدخلات عسكرية. ولكن يرى كوبلو أن هذا الافتراض غير صحيح، فالجيش في تركيا، وخاصة بعد انقلاب 1980، قام بالعديد من عمليات التعذيب والحبس لآلاف المواطنين الأتراك. وعلى الرغم مما حظيت به المؤسسة العسكرية من تأييد شعبي في تلك الفترة؛ فإن نفوذها لم يؤدِّ إلى وجود حياة سياسية سليمة. فلا يمكن لدولة أن تؤسس لنظام ديمقراطي طالما أن هناك مؤسسات غير منتخبة لها اليد العليا على أخرى منتخبة. كما أن منح المؤسسة العسكرية حق الفيتو على القرارات الحكومية، يدفع المسئولين إلى التودد للجيش، وهو ما يشوه العملية السياسية، إلى جانب التضييق على مؤسسات المجتمع المدني، والرقابة المتشددة على الإعلام. كما اعتبر الكاتب أن افتراض تشابه النموذجين المصري والتركي هو افتراض قاصر، وذلك نتيجة اختلاف السياقات والعوامل الحاكمة للعملية السياسية في البلدين. فتركيا تتمتع بتاريخ من الديمقراطية تفتقده مصر. فبعد كل انقلاب في تركيا، كان تاريخها الديمقراطي يخلق ضغطًا شعبيًّا لإجبار الجيش على الخروج من الحياة السياسية. غياب هذا التاريخ الديمقراطي في مصر قد يكون سببًا في تكرار التدخلات العسكرية في إدارة الدولة في السنوات القادمة. وفسر كوبلو توقف الجيش تمامًا عن الانقلاب على السلطة المنتخبة في السنوات الأخيرة بطلب تركيا العضوية في الاتحاد الأوروبي، أي أنه لم يكن ناتجًا عن إيمان الجيش بأهمية المبادئ الديمقراطية، وضرورة الالتزام بها واحترامها. وكذلك الحال بالنسبة لعضوية تركيا في الناتو، والتي أعطت المجال للقوى الغربية أن تضغط على الجيش لضمان التزامه بالمبادئ الديمقراطية، والحد من تدخله في الشأن السياسي. ومن ثم، وصف كوبلو القول بأن مصر قد تتجه نحو النموذج التركي في الفترة القادمة بأنه تصور خاطئ، لأن العوامل التي دفعت تركيا نحو تطبيق الديمقراطية على الرغم من دور المؤسسة العسكرية لا تتواجد في مصر. أي أن وجود الجيش في اللعبة السياسية لا يمكن أبدًا أن يكون عاملا دافعًا نحو الديمقراطية، بل يجب أن تتوافر عوامل وظروف أخرى لتحقيق هذا الهدف، وهي العوامل التي ظهرت بوضوح في النموذج التركي، وغابت في الحالة المصرية. انقلاب المجتمع المدني والديمقراطية أطلق عمر إنكارنثيون(2)في مقاله على موقع "السياسة الخارجية" مصطلح "انقلاب المجتمع المدني" على ما حدث في مصر منذ 30 يونيو. ولقد طبق الكاتب هذا المصطلح على حالات أخرى من بينها الانقلاب في الفلبين عام 2001، والإكوادور في عام 2002، وتايلاند في عام 2006، وهندوراس في عام 2009. ويشير انقلاب المجتمع المدني إلى نزع السلطة من قائد منتخب من خلال مظاهرات عارمة تستمر لمدة طويلة يتبعها تدخل من الجيش. أي أن هناك تعاونًا ما بين المجتمع المدني والمؤسسة العسكرية، وهو ما يميز هذا النموذج عن نماذج الانقلابات العسكرية التقليدية. وعادةً ما يُنظر إلى هذا النوع من الانقلابات نظرة إيجابية، باعتبار أنه قد يعيد العملية الديمقراطية إلى مسارها الصحيح، وهي وجهة النظر التي يتبناها الليبراليون في مصر ممن يرفضون استخدام مصطلح "الانقلاب العسكري" لوصف عملية عزل محمد مرسي. غير أن الكاتب قد رفض وجهة النظر هذه، واستشهد بالأمثلة سالفة الذكر لانقلابات المجتمع المدني التي لم تساعد أيُّ منها على تطبيق الديمقراطية في الدول التي حدثت فيها. فقد شهدت فنزويلا انقلابًا في عام 2002 ضد الرئيس تشافيز والذي كان قائدًا للقوى الأكثر تنظيمًا داخل الدولة، وذلك عقب مجموعة من الاحتجاجات الشعبية ضده. ولكن تم إجبار الجيش لاحقًا على العدول عن الانقلاب بعد 48 ساعة فقط نتيجة شعبية تشافيز التي ظهرت في مجموعة تظاهرات عنيفة مناهضة للانقلاب، توفي إثرها 20 شخصًا. وبعدها عاد تشافيز إلى الحكم، ومارس بعدها سياسات أكثر سلطوية عن ذي قبل. ولقد رأى الكاتب في ذلك ما يشبه الحالة المصرية، فالانقلاب أدى إلى إخراج القوى الأكثر تنظيمًا من دائرة الحكم كما حدث في فنزويلا، فضلا عن إصرار أعضاء جماعة الإخوان وقياداتها على ضرورة عودة مرسي إلى السلطة، وأنهم لن يتفاوضوا في ذلك. وفي الفلبين في عام 2001، قام الجيش بالانقلاب على الرئيس جوزيف إسترادا بعد أربعة أيام من الاحتجاجات المتواصلة. ثم جاءت بعده نائبة الرئيس إلى سدة الحكم، إلا أن سياساتها لم تتسم بالديمقراطية، وظلت الدولة تعاني من حالة من عدم الاستقرار بسبب استمرار الاحتجاجات العنيفة التي قام بها مناصرو الرئيس المعزول. ولذا اعتبر الكاتب أن هذا النوع من الانقلابات يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار قد تستمر لفترة طويلة، ومن ثم تعوق مسار التحول الديمقراطي داخل الدولة. فالديمقراطية تنشأ من وجهة نظره فقط عندما يقوم المواطنون بمعاقبة الحكومات على إخفاقاتها واستبدالها بأخرى من خلال صناديق الانتخابات وليس بالمظاهرات. تطورات ما بعد عزل الرئيس في مصر يرى شادي حميد(3)في مقاله في صحيفة "واشنطن بوست" أن الانقلابات العسكرية لا تحل الصراعات، وإنما تؤدي إلى تفاقمها. فبعد رحيل مرسي، قام الجيش في مصر بإغلاق العديد من القنوات الدينية، والقبض على العديد من قادة جماعة الإخوان، وهو ما يتعارض مع القيم الديمقراطية. وذلك فضلا عن الصراع المجتمعي ما بين أنصار مرسي وبين الجزء الآخر من الشعب الذي يرى الرئيس المؤقت عدلي منصور هو الرئيس الشرعي للبلاد. فحتى وإن لم تكن الديمقراطية هي مجرد انتخابات، فإن الاضطرابات في مصر تقتضي وجود قواعد وإجراءات ديمقراطية ثابتة يحترمها الكافة. فترسيخ مبدأ التظاهر كأداة لإسقاط أي قيادة منتخبة، سيقوض مفهوم الشرعية الديمقراطية من خلال الانقلابات العسكرية المتكررة. ومن نفس المنطلق، يرى عمر عاشور(4)في مقالته في صحيفة "الجارديان" أن الانقلاب على سلطة منتخبة لها مؤيدون سيرسخ للديكتاتورية العسكرية، أو يفضي إلى حرب أهلية، أو إلى كليهما. فالسيناريو الأسوأ هو أن يحدث في مصر ما حدث في الجزائر في عام 1992 أو في إسبانيا في عام 1936. ففي كلتا الحالتين توفي أكثر من 250 ألف مواطن في حروب أهلية بعد أن قامت مؤسسة الجيش بالانقلاب على العملية الديمقراطية. وفي الحالتين أيضًا، كانت هناك قوى سياسية مدنية، وقيادات دينية، وأعداد ضخمة من الجماهير مناصرة للانقلاب. واعتبر عاشور أن النموذج الأفضل للانقلاب العسكري كان في تركيا في عام 1997، عندما طلب الجيش من رئيس الوزراء أربكان الاستقالة. ولكن على عكس ما حدث في مصر، لم يتم حل البرلمان، ولم يتم إيقاف العمل بالدستور. كما سمح لحزب الرفاهية الذي كان يترأسه رئيس الوزراء التركي الترشح في الانتخابات التالية. بيد أن هذا لم يحدث في مصر، فالبرلمان قد تم حله، وقادة الحزب الفائز في الانتخابات تم اعتقالهم، وهناك احتمالية لحل جماعة الإخوان تمامًا. ومن ثم، قال عاشور إن مصر أقرب للنموذج الجزائري منها إلى التركي، وخاصة مع تصاعد المواجهات المسلحة ما بين الجيش والقوى الموالية للرئيس المعزول. ولكن إذا لم تقم المؤسسة العسكرية بممارسة الإقصاء وتبني سياسات القمع السياسي والإعلامي قد يحدث انتقال ديمقراطي كما حدث في تركيا فيما بعد 1997. فإن كانت مآلات التحول الديمقراطي في مصر لم تتضح بعد؛ فإن الكاتب يؤكد على أن الديمقراطية المصرية في خطر، وأن فشل العملية الديمقراطية في مصر لن يقتصر عليها فقط، وإنما ستظهر تأثيراته الإقليمية على دول المنطقة لا محالة. رؤية مغايرة على الرغم من اتفاق عدد كبير من المحللين على أن الانقلابات لا يمكن أن تؤسس لنظام ديمقراطي، قدم ميشيل روبين(5)رؤية مغايرة. إذ قال روبين إن الانقلاب لم يَقْضِ على الديمقراطية في مصر لأنها لم تكن موجودة بالأساس. فحتى وإن كان محمد مرسي قد فاز في الانتخابات، فإنه حاول الهيمنة على السلطة، ولم يحترم المبادئ الديمقراطية، وحارب القضاء، ووضع المصريين في خيار ما بين إعلان دستوري يعطيه صلاحيات مطلقة، ودستور وضعته جماعته (جماعة الإخوان المسلمين(. فعندما تغيب آليات الرقابة، وعندما يتمادى الحكام في ممارسات سلطوية؛ لن يكون هناك مخرج إلا إجبارهم على الرحيل. ففي هندوراس في 2009، حدث انقلاب عسكري ضد الرئيس بعد أن انتهك الدستور، ومارس ضغوطات على المحكمة العليا. وفي حين عارضت بعض القوى الغربية هذا الانقلاب ومن بينها الولاياتالمتحدة بدعوى أنه انقلاب على الديمقراطية؛ تخلى بعدها الجيش عن السلطة، وقام بالإعلان عن انتخابات جديدة، وأصبحت الديمقراطية في هندوراس أكثر نضوجًا عما كانت عليه من قبل. وكذلك الحال بالنسبة لكوريا الجنوبية التي شهدت مجموعة من الانقلابات في الثمانينيات، بعدها أصبحت إحدى أهم الديمقراطيات في القارة الأسيوية. كما مرت تايوان بمرحلة انتقالية من حكم عسكري إلى حكم ديمقراطي على مدار أكثر من عقد من الإصلاحات التدريجية، وذلك بعد ما شهدته من انقلابات عسكرية. ولقد كانت هذه الإصلاحات التدريجية هي أحد أسباب ترسيخ الثقافة الديمقراطية في تايوان. ومن ثم، قد يكون الانقلاب في مصر فرصة لتجنب ديكتاتورية القوى الإسلامية، وتأسيس لنظام ديمقراطي كما حدث في بلدان أخرى لم يكن فيها تدخل المؤسسة العسكرية لعزل الحاكم عائقًا أمام الممارسات الديمقراطية، بل على العكس، قد أفسح لها المجال. وستوضح تطورات الأحداث في الفترة القادمة، ومواقف المؤسسة العسكرية والقوى السياسية المختلفة، والضغط المجتمعي، ما إذا كانت مصر تتجه نحو تأسيس نموذج ديمقراطي سليم، أم أن أحداث 30 يونيو وما بعدها ستُدخل مصر في سلسلة لا نهائية من التدخلات العسكرية والاضطرابات يصعب معها إنشاء نظام ديمقراطي وحياة سياسية سليمة.