"اطلع من بين الشعوب ،وقم بتشكيل ذاتك ، وعليك أن تعلم أنك الوحيد عند الرب حتي الآن. قم بقتل الآخرين أو اتخذ منهم عبيدا أو فلتقم باستغلالهم . ثق بانتصارك علي العالم كله وبأن كل شيء سيخضع لك ، تجنب الجميع ولا تختلط في حياتك بأحد . وثق بما أنت موعود به حتي حين تفقد أرضك وشخصيتك السياسية وحين تتبعثر علي وجه الأرض بين مختلف الشعوب ثق بأن كل شيء سيأتي في حينه ، ولكن حتي يحين ذلك الأوان عش ، وتجنب، واتحد ، واستغل الآخرين وعليك خلال ذلك أن تنتظر"هكذا كتب نبي الرواية " دوستويفسكي"عن جوهر فكرة دولة داخل الدولة التي اتبعها اليهود كي يواصلوا البقاء علي مدي أربعين قرنا من الزمان ، وهذه الفكرة بمثابة ميثاق يكشف عورتهم أمام العالم كله ، وقد أورد الكاتب الكبير الفكرة التي نشأت عليها العقلية اليهودية في مقالته البحثية " المسألة اليهودية" التي نشرت ضمن يومياته عام 1877 ، وتم التعتيم علي هذه المقالة من جانب الصهاينة حيث منعوا إعادة نشرها لفترة طويلة .وقام كاتبنا الكبير والقاص د. أحمد الخميسي بترجمة المقالة من الروسية إلي العربية ونشرها في مجلة أدب ونقد ، ولأن المقالة التي تعد وثيقة أدبية وسياسية بالغة الأهمية هي لكاتب كبير بحجم دوستويفسكي فقد ضمنها الخميسي في كتابه الأخير " أوراق روسية" الصادر مؤخرا عن دار أخبار اليوم ضمن السلسلة الثقافية " كتاب اليوم".ويوضح دوستويفسكي في مقالته الموقف المتسامح للشعب الروسي من ثلاث ملايين يهودي كانوا يعيشون علي أرض روسيا في تلك الفترة وعلي النقيض منه يبرز موقف اليهود القائم علي عدم الرحمة والرغبة في امتصاص دماء الشعب الروسي ، حيث يفتتح مقالته قائلا " اسألوا السكان الأصليين في أطراف بلادنا ، ماذا يحرك اليهود اليوم وماذا حركهم طيلة القرون ؟ وسوف ترون أن الرد بالإجماع هو... حركهم ويحركهم عدم الرحمة ورغبتهم في امتصاص عرقنا ودمائنا"وكان الدافع الأساسي وراء كتابة دوستويفسكي لهذه المقالة هو تلقيه للكثير من الرسائل من بعض اليهود الذين يتهمونه فيها بكراهيته وحقده علي اليهود بصفتهم شعبا وليس لعيوب محددة فيهم كنزعة الإستغلال.ويتعجب دوستويفسكي من شكوي اليهود من إذلالهم وعذاباتهم ومصيرهم حيث يقول " أعتقد أنه ليس هناك شعب آخر غير اليهود يواصل الشكوي من إذلاله وعذاباته ومصيره إلي هذا الحد وفي كل دقيقة فى دأب محموم وبذلك يبدو الأمر كما لو أنهم ليسوا هم الذين يسودون أوروبا وكأنهم ليسوا هم الذين يديرون فيها البورصات المالية ومن ثم يتولون توجيه دفة السياسة والشئون الداخلية والأخلاقية للدول"ويفسر العملاق ديستوفسكى نزعة الإستغلال التي ترسخت في شخصية اليهودي من خلال سرده لموقفهم من السكان الروس الأصليين المحررين من نظام الرق حيث يذكر أن اليهود كانوا أول من اقتنصوهم كما يقتنص الصائد الفريسة واستغلوا عيوبهم وجروهم الي المصائد بحبال ذهبية وبعد أن استغلوهم أسوأ استغلال وحصلوا منهم علي ما يبتغون انصرفوا.ويعود دوستويفسكي مرة أخري لتفسير ميثاق دولة داخل الدولة حيث يقول أن الإشارة الي المطاردات والرغبة في البقاء لا تكفي لتفسيره ذلك لأن التصميم علي البقاء لا يمكن أن يستمر طوال أربعين قرنا من الزمان ولكنه يؤكد أن السبب في ظهور هذا الميثاق هي فكرة مسيطرة ذات أبعاد وأعماق ليس بوسع البشرية أن تصدر عليها حكما نهائيا وإن كان الطابع الديني يشغل فيها مكان الصدارة.لم يصدق نبي الرواية اليهود المتعلمين والمثقفين حين يزعمون بأنهم ملحدون ويؤكد أن اليهود جميعا من أصل واحد والله وحده هو الذي يدري ماذا يمكن أن ينتظر العالم منهم ، وهنا يذكر الأسطورة التي قرأها في طفولته مؤكدا اقتناعه وتصديقه لها ، وتقول الأسطورة أن اليهود علي اختلاف درجاتهم بدءا من اليهودي البسيط وانتهاءا بالعالم الفيلسوف والحاخام ينتظرون المسيح المنتظر حيث يعتقدون بأنه سيجمعهم مرة أخري في القدس وسيرمي بسيفه جميع الشعوب تحت أقدامهم ولهذا السبب يفضل أغلب اليهود مهنة واحدة هي تجارة الذهب ، ليسهل عليهم نقل الذهب والمجوهرات الي حيث سيظهر المسيح المنتظرعندما تبزغ أشعة الفجروتعزف الآلات الموسيقيةسنحمل الفضة والخير والمقدساتنحملها الي بيتنا القديمفي فلسطينهكذا توقع دوستويفسكي قيام دولة إسرائيل قبل 71 سنه حيث كتب هذه المقالة عام 1877م.ويقدم لنا الخميسي في كتابه " أوراق روسية" الذي أهداه الي روح المواطن الروسي الذي أضرم النار في نفسه أمام بيته احتجاجا علي الغزو الأمريكي للعراق ، صورة حقيقية عن المجتمع الروسي من خلال رحلته عام 1972 الي الإتحاد السوفيتي قبل انهياره ، كما يسرد تاريخ العلاقات العربية الروسية التي بدأت عن طريق أول رحلة قام بها أحمد بن فضلان مبعوث الخليفة العباسي المقتدر بالله عام 922 ميلادي والتي سجلها في كتابه الشهير " رسالة بن فضلان" .ويذكر الخميسي أن انتشار الثقافة العربية في روسيا والإسلامية تحديدا يعود إلي القرن السابع الميلادي حيث صدرت ترجمة كاملة للقرءآن الكريم إلي الروسية عام 1716 ومن هنا أصبحت الثقافة الإسلامية مصدر إلهام لعظماء الكتاب الروس ولأمير الشعراء ألكسندر بوشكين الذي كتب عام 1824 قصيدة من تسعة مقاطع بعنوان " قبسات من القرآن" وكتب ليال مصرية 1835 وأشار الي تأثير ثقافة العرب قائلا " العرب هم الذين ألهموا ملاحم العصور الوسطي تلك النشوة الروحية ،والرقة، والحب " .ويمضي الكاتب في سرده للعلاقات التي نشأت بين العرب وروسيا من خلال ذكره لأسماء مصرية عربية ساهمت في تشكيل علاقة وطيدة بين الجانبين ومنهم الشيخ عياد الطنطاوي الذي سافر الي روسيا عام 1840 لتدريس اللغة العربية للروس الأمر الذي ساهم بشكل كبير في نشر الثقافة العربية هناك حتي أن المستشرق الروسي الكبير كراتشكوفسكي كتب في كتابه " حياة الشيخ الطنطاوي" أن سفر الطنطاوي الي روسيا كان حدثا كبيرا ليس في حياته فحسب بل وفي الإستشراق الروسي أيضا حيث تلقي الروس أصول اللغة العربية في عقر دارهم علي يد الطنطاوي الذي ترك أيضا كتابا في النحو العربي باللغة الروسية ، فساعد بكل ذلك في تطوير الإستشراق الروسي.ويصف لنا الخميسي الأحوال السياسية لروسيا وانعكاساتها علي المشهد الثقافي وذلك من خلال سرده لحياة بعض الكتاب والشعراء الروس في فترات زمنية مختلفة ، حيث يذكر أسماء عدد من المثقفين الذين مارسوا عملهم خارج دائرة السلطة السوفيتية التي كانت تقمعهم وتقيد حريتهم وتمارس ضدهم أقصي أشكال العنف ومنهم الشاعر نيكولاي جوميليوف الذي قتل في محاكمة صورية بتهمة ملفقة ، والشاعرة الروسية الكبيرة تسفيتايفا التي دخلت الي حجرة منعزلة في بيتها في 31 أغسطس 1941 وأنهت حياتها بأنشوطة حول عنقها نتيجة اضطهادها من جانب السلطات السوفيتية ، وأسطورة المواجهة الكاتب العظيم "سولجينتسين" الذي صارع دولتين وكافح نظامين سياسيين حيث لم تستطع الشيوعية السوفيتية أن تكسر قلمه ولم تتمكن الرأسمالية الروسية من شرائه بالأوسمة والمال ولذلك عاش حياة مليئة بالقمع والإضطهاد ولكنه كان آخر الكتاب الروس العظام الذي لم يشغله شيء سوي الدفاع عن الحقيقة.رسم لنا الخميسي لوحة من الكلمات لمجتمع لا نعرف عنه الكثير سوي مواقف حكوماته وأسماء بعض مشاهيره من الكتاب الذين صاغوا وجدان القاريء العربي مثل أنطوان تشيكوف الذي تربطه به علاقة روحية شديدة الخصوصية ، وقدم لنا روسيا ياقوتة ملونة متوهجة بالوجع والإنتفاض والحب والورود أيضا و تجول بنا في شوارعها الساحرة الفاتنة بل أدخلنا قلبها الكبير الذي يتنفس ويتنهد طيلة الوقت ولذلك ودعناها بصعوبة شديدة ،من دون الإلتفات للخلف لأن نظرة واحدة إلي عينيها كانت ستقيدنا هناك إلي الأبد.