" يقلب الحاكم توجسه وغيرته من شعبه إلى خوف على ملكه، فيأخذهم بالقتل والإهانة... كلمة قالها ابن خلدون منذ مئات السنين وما زالت تعيش بمعانيها بيننا الى الان . ابن خلدون مؤرخ عربي، تونسى قضى أغلب مراحل حياته في تونس والمغرب الأقصى وكتب الجزء الأول من مقدمته الشهيرةب " مقدمة ابن خلدون " بقلعة أولاد سلامة بالجزائر، وعمل بالتدريس في جامع الزيتونة بتونس وفي المغرب بجامعة القرويين في فاس الذي أسسته الأختان الفهري القيروانيتان ، وبعدها انتقل الى القاهرة حيث عمل في الجامع الأزهر بالقاهرة، مصر والمدرسة الظاهرية وغيرهم ،وفي آخر حياته تولى القضاء المالكي بمصر بوصفه فقيهاً متميزاً خاصة أنه سليل المدرسة الزيتونية العريقة وكان في طفولته قد درس بمسجد القبة الموجود قرب منزله ، توفي ابن خلدون بالقاهرة سنة 1406 م (808ه). سيرته : يعتبر ابن خلدون أحد العلماء الذين تفخر بهم الحضارة الإسلامية، فهو مؤسس علم الاجتماع وأول من وضعه على أسسه الحديثة، وقد توصل إلى نظريات باهرة في هذا العلم حول قوانين العمران ونظرية العصبية، وبناء الدولة وأطوار عمارها وسقوطها، وقد سبقت آراؤه ونظرياته ما توصل إليه لاحقاً بعدة قرون عدد من مشاهير العلماء كالعالم الفرنسي أوجست كونت. شهرته : عدّدَ المؤرخون لابن خلدون عدداً من المصنفات في التاريخ والحساب والمنطق غير أن من أشهر كتبه كتاب بعنوان " العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر " ، وهو يقع في سبعة مجلدات ، وأولها المقدمة وهي المشهورة أيضاً بمقدمة ابن خلدون، وتشغل من هذا الكتاب ثلثه، وهي عبارة عن مدخل موسع لهذا الكتاب وفيها يتحدث ابن خلدون ويؤصل لآرائه في الجغرافيا والعمران والفلك وأحوال البشر وطبائعهم والمؤثرات التي تميز بعضهم عن الآخر. اعتزل ابن خلدون الحياة بعد تجارب مليئة بالصراعات والحزن على وفاة أبويه وكثير من شيوخه إثر وباء الطاعون الذي انتشر في جميع أنحاء العالم سنة 749هجرية (1323 م) وتفرغ لأربعة سنوات في البحث والتنقيب في العلوم الإنسانية معتزلاً الناس في سنوات عمره الأخيرة، ليكتب سفره الخالد أو ما عرف بمقدمة ابن خلدون ومؤسسا لعلم الاجتماع بناء على الاستنتاج والتحليل في قصص التاريخ وحياة الإنسان. واستطاع بتلك التجربة القاسية أن يمتلك صرامة موضوعية في البحث والتفكير. ابتكر ابن خلدون وصاغ فلسفة للتاريخ هي بدون شك أعظم ما توصل اليه الفكر البشري في مختلف العصور والأمم ، حيث وصفه جورج مارسيز ، قائلا " إن مؤلف ابن خلدون هو أحد أهم المؤلفات التي انجزها الفكر الإنساني ، اما ايف لاكوست فوصفه بان مؤلف ابن خلدون يمثل ظهور التاريخ كعلم، وهو أروع عنصر فيما يمكن أن يسمى بالمعجزة العربية . الاقتصاد : لابن خلدون دور كبير فى وضع اسس ومبادئ الاقتصاد قفي القرن الرابع عشر كان أول من اكتشف دور العوامل الاقتصادية وعلاقات الإنتاج الى الامر الذى جعل الفيلسوف الشهير لينين يتساءل : " تُرى أليس في الشرق آخرون من أمثال هذا الفيلسوف" . فلسفة ابن خلدون امتاز ابن خلدون بسعة اطلاعه على ما كتبه القدامى على أحوال البشر وقدرته على استعراض الآراء ونقدها، ودقة الملاحظة مع حرية في التفكير وإنصاف أصحاب الآراء المخالفة لرأيه. وكان لخبرته في الحياة السياسية والإدارية وفي القضاء، إلى جانب أسفاره الكثيرة من موطنه الأصيل تونس وبقية بلاد شمال أفريقيا إلى بلدان أخرى مثل مصر والحجاز والشام، أثر بالغ في موضوعية وعلمية كتاباته عن التاريخ وملاحظاته. بسبب فكر ابن خلدون الدبلوماسي الحكيم، أرسل أكثر من مرة لحل نزاعات دولية، فقد عينه السلطان محمد بن الاحمر سفيرا إلى أمير قشتالة لعقد الصلح وبعد ذلك بأعوام، استعان أهل دمشق به لطلب الأمان من الحاكم المغولي تيمور لنك، والتقوا بالفعل. حول هذه الشخصية العظيمة يقول الدكتور نبيل السمالوطى استاذ علم الاجتماع بجامعة الازهر عنه ان ابن خلدون كما عرف الفلسفة عرف المنطق والتاريخ ولاقتصاد ، عرف اساطين علم الكلام مما مكنه من ان يقدم هذا الانتاج الضخم مما خلف للبشرية فى شتى مجالات العلوم التى افادت البشرية جمعاء وهو ما شهد عليه الغرب بأكمله . واضاف ان اروع ما قدمه ابن خلدون هو كتابه الشهير العبر الذى صاغه فى اربعة الاف صفحة ، وضع فيها كل خبرته التى اكتسبها طوال حياته ، ليكون بالفعل اول من دشن فلسفة التاريخ قبل اى عالم قبله . واوضح ان الغرب درج فى فترة من الفترات ان ينسب الى نفسه افضال وعلوم كثيرة هى فى الاساس تنسب الى علماءالمسلمين والعرب ، مثل العالم والفيلسوف الكبير اوجست كونت الذى ينسب اليه انه اول من توصل الى وضع اسس علم الاجتماع ، بينما كل المؤشرات والادلة تؤكد انه استند فى كتاباته وابحاثه الى ابن خلدون الذى قرأ مؤلفاته المترجمة الى اللغة الفرنسية . بينما يقول الدكتور قاسم عبده استاذ التاريخ جامعة الزقازيق ان ابن خلدون بزغ كشخصية عبقرية وفذة ليست لها مثيل من قبله او من بعده فهو يقارن الحضارات بالبشر بمعنى ان الحضارات لها اعمار مثل البشر تولد الحضارة ولها طفولة مبكرة ثم فترة شباب وقوة ثم فترة شيخوخة ثم الى السقوط ...ويقول تلكم هى سنة الله فى عباده لان لكل اجل كتاب . واضاف لاننسى ايضا دوره فى علم العمران البشرى والانسانى هذا العلم الذى كتب فى مقدمته الشهيرة " مقدمة ابن خلدون " ، وبفضل هذه المقدمه ثار جلدل كبير بين اساتذة علم التاريخ ، وعلم الاجتماع كل يريد ان ينسب هذا العلم الى مجاله . توفى ابن خلدون عام 1406 ، ودفن فى مقابر الصوفيع عند باب النصر شمال القاهرة ، ولكن يكفيى ابن خلدون ما ترك الى اليوم من علم وثراث عالمى شاهدا على عظمة الفكر الاسلامى المتميز بالدقة والجدية العلمية ، والقدرة على التجديد لإثراء الفكر الإنسانى .