منطقة شرق العريش.. هكذا يطلق أهالى سيناء على المنطقة التى تبدأ من نهاية حدود مدينة العريشالشرقية و حتى الشريط الحدودى الفاصل ما بيننا و بين قطاع غزة فى جزء منه و بين إسرائيل فى جزء آخر منه، و تقع فى هذه المنطقة مدينتين على ساحل البحر هما الشيخ زويد و رفح ومن خلفهما ظهير صحراوى مفتوح وممتد حتى يصل إلى وسط سيناء فى منطقة المضايق ويضم هذا الظهير الصحراوى مجموعة متناثرة وصغيرة من القرى البدوية ومجموعة أهم من النقاط الحاكمة لتلك المنطقة مثل الجورة و جبل الحلال والقصيمة والحسنة. هذه المنطقة خارج سيطرة الدولة المصرية تماما" إعتبارا" من صباح يوم 29يناير عام 2011م أى فى اليوم التالى مباشرة لجمعة الغضب الذى كانت أحداثه تدور فى القاهرة والأسكندرية والسويس وإختص هذا اليوم شمال سيناء بأحداث خاصة بها دارت فى الليل وفى الساعات الأولى من يوم 29يناير، فمباشرة بعد إنتهاء خطاب الرئيس مبارك الأول إندلعت معارك عنيفة ما بين مجموعات مسلحة وقوات الشرطة الموجودة فى هذه المنطقة وتقوم فيها بدور الجيش وفقا لقيود "معاهدة كامب ديفيد" التى تحدد هذه المنطقة بمسمى المنطقة (ج) والمقيد فيها تواجد الجيش بأسلحته إلى تواجد رمزى ومقصور على نقاط المعابر الحدودية (رفح الجورة كرم أبوسالم) ولهذا كانت قوات الشرطة تقوم بعمل الجيش فى هذه المنطقة ذات الطبيعة الخاصة، أسفرت المعارك الليلة الشرسة والمفاجئة عن تدمير كافة المواقع الشرطية الموجودة فى المدن والنقاط الرئيسية وأهمها وأكبرها الشيخ زويد ورفح المدينتان الساحليتان وإنسحاب قوات الأمن غربا" حتى الوصول إلى مدينة العريش للإحتماء بتحصيناتها وكثافتها السكانية من وابل الهجوم غير المتوقع والذى ترجم فى حينه على أنه أحد مظاهر الغضب والإحتجاج ضد جهاز الشرطة إتساقا" مع أحداث الثورة فى بداياتها وإن كانت الصورة بدت أشد قتامة وأعنف وقعا" بكثير مما كان يحدث بالمدن الأخرى، وظن أيضا" فى حينه أن الأمر موقوت بتغير الأحداث ووصول مسار الثورة إلى مستقر لها يعاد بعده ترتيب الأوضاع وهو ما لم يحدث ولم يرتب شيئ فبعد إنقضاء الثمانية عشر يوما" زاد الوضع تفاقما" و طرد من هذا المكان قسريا" كل ما يمثل مظهرا" من مظاهر الدولة بداية من مقرات الحزب الوطنى إلى الوحدات الصحية ومراكز الشباب والرياضة والثقافة وما شابه من مختلف الأجهزة الخدمية التى تدل على تواجد دولة فى هذه المدن الصغيرة والتى يعمل بها فى الأغلب الأعم من هم من غير أبناء تلك المدن فالمعظم من المغتربين وهو ما عجل بإنسحابهم سريعا" إلى مدينة العريش لتخرج تلك المنطقة عن نطاق الدوله إعتبارا" من هذا التوقيت وحتى الآن ويبقى تواجد شاحب لقوات الأمن الموجودة على المعابر والمكلفه بتأمين الشريط الحدودى فى موقعها كالجزر المنعزلة فى بحر واسع من المخاطر يحوطها من كافة الإتجاهات.. وتجرى فى النهر مياه كثيرة طوال المرحلة الإنتقالية وتتعدد الحوادث والجميع منشغل بما يحدث فى العاصمة من ترتيبات سياسية لتتلقى هذه المنطقة من الضربات ما يقلب الأوضاع رأسا" على عقب فوصول السلاح الليبى إلى هناك أخل بموازيين القوة بصورة فادحة لتصبح كلمة هذه الجماعات المسلحة هى العليا ودعم ذلك تدفق أعداد هائلة من محترفى العمل المسلح القادمين من خارج مصر (باكستانأفغانستان الشيشان اليمن ليبيا ألبانيا البوسنة) بالإضافه إلى المفرج عنهم من السجون المصرية إستغلالا" للطبيعة الجغرافية التى تعد مكانا" نموذجيا" لإستقبال هؤلاء الباحثين عن ملاذ آمن يناسب طبيعة عملهم لتتغير المنظومة فى سرعة وتسحب هذه الجماعات والتنظيمات التى تشكلت على الفور الكلمة والقوة و القرار من قبائل سيناء أصحاب المكان والأرض الأصليين ويوضع على الأرض مسارات مغايرة لما كان سائدا" وينفتح الطريق إلى قطاع غزة فى تداخل وتشابك للمصالح والمنافع المتبادلة ومازال فى هذا النهر من المياة المسمومة ما هو كفيل بإغراق المنطقه فيما هو أفدح مما ظهر طوال المرحلة الإنتقالية والذى توج بحادث رفح الشهير وإغتيال الجنود المصريين فى عملية شاركت فيها تلك الجماعات المسلحة بالتعاون الكامل مع عناصر معلومة ونافذة فى قطاع غزة. و لأننا اليوم بصدد مناقشة ما هو حال وقادم فنكتفى بهذا العرض الموجز والمخل عن الأوضاع فى منطقة شرق العريش فالتفصيلات مرعبه ولا تنتهى، ولكن اليوم قد يحمل لنا ما هو أخطر من الرعب وينقل المشهد إلى مربع السياسة ويعود به إلى أرض القاهرة التى إستقبلت أخيرا" وفدا" رفيع المستوى من حركة حماس كان قد سبقه مجموعة من اللقاءات ما بين رئيس مكتبها السياسى خالد مشعل وبين مرشد جماعة الإخوان المسلمين ودائرة ضيقة من مكتب إرشادها لبحث مجموعة من الخطوات التنظيمية للحركة على رأسها الرغبة الإخوانية الحالية بإستمرار خالد مشعل على رأس الحركة بعد أن كان مشعل قد أعلن صراحة منذ شهور عن عدم إستمراره فى هذا المنصب بعد خروج الحركة من سوريا وتحقيقا" لترتيب داخلى للحركة فى تجديد الدماء والوجوه للمرحلة القادمة ولكن جاءت رغبة إرشاد مصر لتوجه هذه الترتيبات إلى منطقة أخرى ويعاد تنصيب خالد مشعل على رأس المكتب السياسى، وصاحب القرار الأول فيها وكعادة حركة حماس دائما" ما تأتى للقاهرة بمجموعة من الملفات والطلبات وكانت فى هذا اللقاء تحمل على رأس جدول أعمالها رغبتها فى فك الإشتباك والإحتقان المكتوم ما بينها و بين المؤسسة العسكرية المصرية والذى شهد مظاهر تقترب من مناطق الخطر بالنسبة لها، فتطوير الجيش لأداءه فى قضية الأنفاق ووضوح إصراره لتصفية هذا الموضوع مع كل ما يلاقيه من ممانعة وتقييد من القيادة السياسية يقلق حماس حول حدود المدى الذى سيصل الجيش فيه فى هذه القضيه وخصوصا" مع تزامن ذلك مع تسريب واضح لأول مرة يحمل إتهام مباشر لعناصر بالإسم تنتمى لحركة حماس ضالعة فى جريمة رفح التى أرتكبت فى حق جنود تابعين للجيش المصرى، وصاحب ذلك التسريب الذى أفسحت له وسائل الإعلام المصرية مساحة عريضة أن تحولت النبرة الإعلامية إلى هجوم وفضح للعديد من مساوئ تعامل حركة حماس مع مقتضيات الأمن المصرى، فكان الطلب الحمساوى المباشر من مكتب الإرشاد أن يمارس نفوذه لإنتشال حماس من مربع الضغوط الإجرائية والدعائية الضاغطة بالوسائل الذى يراها المكتب مناسبة مع توصية بترتيب لقاءات مباشرة مع قيادة الجيش المصرى والمخابرات العامة لمحاولة تصفية الأجواء. و تكرارا" لطابع الأداء الحمساوى وبنفس التكتيك الإخوانى ذهبت حماس لهذه اللقاءات المطلوبة تحت وقع ما أطلق عليه (العرض العسكرى) الذى تم فى منطقة الشيخ زويد بواسطة عدد ضخم من السيارات ذات الدفع الرباعى المجهزة بالأسلحة الثقيلة والمتطورة وكان التركيز فى هذا الطابور الذى ظهر فجأة هو إبراز العدد الكبير من المعدات و الأسلحة والأفراد بالزى الموحد الذى بدت فيه الصورة أمام الأهالى أن ميليشيات مسلحة تتحرك بينهم تخرج من عمق الصحراء لتصل إلى مدينة الشيخ زويد على الساحل وتعرض نفسها أمام الجميع ثم تدخل إلى الصحراء مرة أخرى فى إتجاه قرية الجورة فى الجنوب لحضور جلسة مصالحة بين عائلتين من أهالى هذه المنطقة.. لنعود للمنطقة التى بدأنا بها الحديث مرة أخرى فهى منطقة الرسائل الملغومة والشراك المفخخة والتى ظهر أيضا" منها المجموعات التى نزلت إلى مدينة العريش يوم أحداث المقطم بنفس الهيئة والكيفية المسلحة والتى أطلقنا عليها جمعة قندهار الثانية ويومها ظهرت خيوط الربط واضحة ما بين المقطم وبين تلك الجماعات واليوم تظهر تلك الجماعات لتحضر بصورتها وإمكانيات خطرها على مائدة اجتماع قادة حماس مع المسؤلين الأمنيين المصريين ويدور حديث المعابر والأنفاق تحت وطأة هذه الرسائل الثقيلة، وما زاد الأمر ثقلا" و بدا بالفعل أشد وطأة أن هناك من الجانب المصرى من تحدث مع قادة حماس قبل الذهاب لهذه الإجتماعات بقوله " أنتم خلصوا أموركم وحلوا الموقف مع بتوع الأمن دول وبعد كده ممكن كل المواضيع تبقى سهله إن شاء الله"،وبعد هذا القول ظهر من يتحدثون من الأمنيين المصريين مكشوفا" سياسيا" من دون أى دعم واضح أو ثوابت لا يجوز الحياد عنها.. تماما" مثل الصحراء المكشوفة هناك فى أقصى الشرق التى لازالت تبعث لنا فى القاهره بالرسائل المتوالية والتى لا تجد من هو متفرغ لقراءتها أو فض أغلفتها بالحرص والإهتمام المطلوب فجميع من يمتلك مهارة تفكيك الرسائل الملغومة والتعامل معها يعيش هذه الأيام قيد الصمت الإجبارى.