تشهد الساحة المصرية تطاحنا وصراعا سياسيا متصاعدا بين الحركات الإسلامية السياسية وبين القوي السياسية المدنية سواء كانت ليبرالية أو اشتراكية أو يسارية . هذا الصراع السياسي بين الفريقين يعود لسنوات طويلة ترتفع حدته تارة وتهدأ أخرى.. تستعر أحياناً وتخبو مرات .. يتصالح القوم في فترات قهرهما.. ثم يتصارعون مجددا بعد زوال القهر .. ولعل تصالحهما في أوقات القهر كان ظاهريا ووهميا أو حتى قهريا. وأري أنه لن يحدث صلح بين الفريقين إلا إذا تصالح الفريق الليبرالي والمدني مع التاريخ الإسلامي .. وإذا تصالح الإسلاميون مع تاريخ مصر الحديث .. فالليبراليون ومن يدور في فلكهم يكادون يغمطون أبطال التاريخ الإسلامي حقهم .. ولا يرون منهم إلا السلبيات ولا يعترفون بانجازات الدولة الأموية والعباسية ودولة الأيوبيين والمماليك والموحدين والمرابطين والعثمانيين وحضارة المسلمين في الأندلس . إنهم لا يكادون يعترفون إلا بالخلفاء الراشدين الأربعة وكأن التاريخ الإسلامي انتهى عندهم .. وقد لا يعترفون بسيدنا عثمان بن عفان كنموذج عظيم للخلفاء الراشدين ظلمه بعض الثوار من مصر والعراق ولم يقدروه قدره ثم قتلوه .. صحيح أن الدول الإسلامية المختلفة بعد عهد الخلفاء الراشدين .. كانت فيها سلبيات في الحكم ولم تكن علي مستوى الخلافة الراشدة أو تقترب منها .. ولكنها أقامت حضارة عظيمة واستطاعت أن تنشر قيما ً كثيرة من العدل والتسامح والرفق في نصف الكرة الأرضية . لقد استطاعت هذه الدول أن تبهر الدنيا كلها بحضارتها وأن تأخذ من الحضارات الأخرى ما يتوافق مع ثوابت الإسلام ثم تقيم حضارة عظيمة في كل المجالات تنشرها للعالم كله . لقد استطاع المسلمون الأوائل من خلال دولهم الأموية والعباسية والموحدون والمرابطون والأيوبية والعثمانية أن يقيموا حضارة علي نصف الكرة الأرضية ويبهروا النصف الآخر .. وخاصة في أوقات قوة هذه الدول وازدهار حضارتها. وينبغي علي الليبراليين وأتباع الدولة المدنية أن يحكموا علي هذه الدول بقواعد زمانها لا بقواعد زمانهم .. وأن يحكموا عليها حكما عادلا يذكر إيجابياتها العظيمة إلي جوار بعض سلبياتها .. وأن يحاكموها بمعطيات عصرها السياسي والاجتماعي . وعلي الإسلاميين في المقابل أن يحكموا بالقسط علي كل زعماء مصر ودولها في العصر الحديث .. وأن يتركوا شيطنة كل الدول المصرية التي قامت علي أرض مصر منذ عهد محمد علي .. وأن يحكموا عليها بإيجابياتها وسلبياتها جميعا.. وخيرها وشرها .. وأن يحاكموها بمعطيات زمانها لا بما كانوا يرجونه منها .. ولا بما يتصورنه أنهم كانوا يريدون محمد علي وأحفاده من أمثال الملك فؤاد وفاروق ثم محمد نجيب وجمال عبد الناصر والسادات مثل عمر بن الخطاب أو قريبا منه . لابد أن يعترف الإسلاميون أن جمال عبد الناصر كانت له حسنات كثيرة وكذلك سيئات كثيرة .. وأن السادات كانت له حسنات كثيرة وسيئات قليلة . علينا أن نعترف بعطاء الآخرين حتى لو لم يكونوا من أبناء الحركة الإسلامية .. إن أزمة الإسلاميين الحقيقية هي نفس أزمة الليبراليين .. فالأولون لا يرون حسنة تذكر لأي حاكم في العصر الحديث .. أما الليبراليون فلا يرون في تاريخ الدول الإسلامية بعد عمر بن الخطاب حسنة واحدة .. إنه الغمط المشترك والجحود المتبادل للتاريخ والرغبة المشتركة في طمسه . لقد كان من حكام مصر في العصر الحديث من هم أفضل من بعض خلفاء العثمانيين والعباسيين في أواخر عهدهما وضعفهما . ولكن بعضنا يفضل أحد حكام التاريخ الإسلامي القديم الضعيف الظالم علي من هو أعدل وأقوى منه في العصر الحديث وبعض الليبراليين قد يفضلون سعد زغلول علي أحد خلفاء الأمويين العظام .. في الوقت الذي ينكر فيه بعض الإسلاميين أي ميزة لسعد زغلول أو مصطفى النحاس أو محمد علي أو محمد نجيب . إنه الجحود المتبادل لحقب كاملة من التاريخ .. وما لم يتم تصالح الإسلاميين مع التاريخ المصري الحديث وإنصافهم لرموزه .. وما لم يتصالح الليبراليون مع التاريخ الإسلامي القديم ورموزه في السياسة والعلم والفقه وغيره .. فلن يكون هناك تصالح علي الأرض . تصالحوا مع التاريخ أولا ً .. وأنصفوا خصومكم التاريخيين أولا ً.. ذلك إن أصررتم علي أنهم خصوم .. واحكموا عليهم بالحق والصدق .. وحاسبوهم بمعطيات زمانهم لا بمعطيات زمانكم وأفكاركم. Comment *