تمر اليوم 6 مارس 2013 الذكرى الخمسون لرحيل واحد من أفضل المتحدثين وأنبغ المفكرين الذين وجدوا فى النصف الأول من القرن العشرين إنه "أحمد لطفى السيد "، الذى استطاع أن يقدم نموذجًا من الصحافة الحديثة فى مصر، كما أنة لعب دورا سياسيا مهما وفعالا فى أحرج فترات التاريخ الحديث لمصر. فهو واحد من أبرز رموز قادة التنوير والتثقيف فى تاريخ مصر الحديث والمعاصر، إذ تولى وزارة المعارف، ووزارة الخارجية وأدارها بفكر وعقلانية، وترأس مجمع اللغة العربية، ودار الكتب، بجانب إدارته للجامعة المصرية، وهو صاحب المقولة الشهيرة "الاختلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية". نشأ لطفى السيد فى أسرة ميسورة جدا، وتربى فى مناخ يميل إلى الاعتدال، انحاز بحكم موقعه الطبقى والاجتماعى إلى معاداة الخلافة العثمانية فى ذلك الوقت. وفى أثناء دراسته تعرف على الشيخ محمد عبده الذى شجعه، حيث رأى فيه نبوغًا وميلاً للحرية واحترام الحقوق، وكان أثر هذا التشجيع أن قام أحمد لطفى السيد وجماعة من نابغى مدرسة الحقوق بإنشاء مجلة التشريع، والتقى جمال الدين الأفغانى أثناء زيارته لاسطنبول سنة 1893 وتأثر بأفكاره. بعد حصول لطفى السيد على ليسانس الحقوق سنة 1894 عمل بالنيابة، وتدرج فى مناصبها، ليعين نائبًا للأحكام بالفيوم سنة 1904، وأثناء هذه الفترة اشترك مع صديقه القديم عبد العزيز فهمى الذى التقى به فى المدرسة الثانوية بالقاهرة، فى تأسيس جمعية سرية باسم "جمعية تحرير مصر" ولما نمى خبرها إلى الخديوى عباس حلمى سعى إليها عن طريق مصطفى كامل زميل أحمد لطفى السيد فى مدرسة الحقوق، وكان الخديوى يسعى للتحرر من قبضة الاحتلال البريطانى وممارسة سلطانه دون قيد منه، فتقرب إلى الأمة، واستعان بشبابها لتحقيق أهدافه. وتم الاتفاق على تأليف حزب وطنى بزعامة الخديوى، وعلى سفر أحمد لطفى السيد إلى سويسرا والإقامة بها سنة لاكتساب الجنسية، والعودة إلى مصر لإصدار جريدة تقاوم الاحتلال البريطانى، محتميًا بجنسيته المكتسبة، وقد عقد أول اجتماع للحزب السرى الجديد بمنزل محمد فريد برئاسة الخديو عباس حلمى، وعضوية مصطفى كامل، وأحمد لطفى السيد، ومحمد عثمان وغيرهم. وفى جنيف التحق أحمد لطفى السيد بجامعتها، وعكف على دراسة الآداب والفلسفة، وصاحبه فى الدراسة الشيخ محمد عبده الذى كان يزور سويسرا فى ذلك الوقت، وعاد أحمد لطفى السيد إلى القاهرة دون أن ينجح فى الحصول على الجنسية، لرفض الباب العالى العثمانى تجنسه بها، وعاد إلى وظيفته فى النيابة، وظل بها حتى ترك العمل بالقضاء سنة 1905، واشتغل بالمحاماة، ثم تركها إلى العمل بالصحافة والسياسة. وبعد أن ترك أحمد لطفى السيد العمل الحكومى اشترك مع جماعة من أعيان مصر فى تأسيس حزب الأمة سنة 1907، وتولى هو سكرتارية الحزب، ورأس صحيفته المعروفة باسم "الجريدة" واستمرت رئاسته للجريدة سبع سنوات وبضعة أشهر توقفت بعدها تمامًا، بعد أن لفظ حزب الأمة أنفاسه الأخيرة. وكانت سياسة الجريدة تقوم على الدعوة إلى فكرة مصر للمصريين، ومهاجمة الجامعة الإسلامية التى كان يدعو إليها السلطان عبد الحميد الثانى، ويعبر أحمد لطفى السيد عن هذا الاتجاه بقوله: "نريد الوطن المصرى والاحتفاظ به، والغيرة عليه كغيرة التركى على وطنه، والإنجليزى على قوميته، لا أن نجعل أنفسنا وبلادنا على المشاع، وسط ما يسمى بالجامعة الإسلامية..". ودعا لحياد مصر من هجوم إيطاليا على ليبيا، حين رأى تعاطف المصريين مع الدولة العثمانية، وقيامهم بجمع التبرعات، وحشد المؤن والأسلحة لإرسالها إلى الجيش العثمانى فى طرابلس بليبيا، لكن دعوته لم تلقَ استجابة، وتعلق قلوبهم بدولة الخلافة العثمانية. عُين أحمد لطفى السيد مديرًا لدار الكتب خلفًا للدكتور "شاده" المدير الألمانى، وفى دار الكتب ترجم بعض أعمال أرسطو، ودعا إلى ترجمة الكتب الأخرى، مؤمنًا أن النهضة فى بدايتها تقوم على الترجمة، وفى أثناء عمله بدار الكتب أنشأ مجمعًا لغويًا عرف باسم "مجمع دار الكتب"، تولى رئاسته الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوى، واشترك فى عضويته حفنى ناصف وعاطف بركات وغيرهما. وفى عام 1918 استقال أحمد لطفى السيد من دار الكتب، واشترك مع سعد زغلول وعبد العزيز فهمى وعلى شعراوى وغيرهم فى تأليف وفد للمطالبة بالاستقلال، وبعد نفى عرابى اشتعلت البلاد بثورة 1919، وظل لطفى السيد فى القاهرة يحرر بيانات الوفد ومذكراته، وتطور الأمر إلى رضوخ بريطانيا للتفاوض، وتشكلت وزارة حسين باشا، فأفرجت عن الزعماء المنفيين، وسافر لطفى السيد مع الوفد المصرى إلى باريس، لعرض مطالب مصر على مؤتمر السلام المنعقد فى فرساى. وفى مارس 1925 عُين مديرا للجامعة المصرية بعد أن أصبحت حكومية، ونأى بها عن العمل الحزبى، وحين أُقصى طه حسين عن الجامعة سنة 1932 إلى وزارة المعارف، قدم لطفى السيد استقالته احتجاجًا على هذا التدخل، ولم يعد إلى الجامعة إلا بعد أن اشترط أن يعدل قانونها بما لا يدع لوزارة المعارف الحق فى نقل أستاذ من الجامعة إلا بعد موافقة مجلسها، وقدم استقالته مرة أخرى سنة 1937 احتجاجًا على اقتحام الشرطة للحرم الجامعى. وظل لطفى السيد مديرًا للجامعة حتى استقال منها عام 1941، ودعاه أحمد ماهر باشا سنة 1944، ليكون عضوًا فى الهيئة التى كونها لدراسة مقترحات الحلفاء لإنشاء منظمة دولية جديدة تحل محل عصبة الأمم، واشترك فى وزارة إسماعيل صدقى سنة 1946، وزيرًا للخارجية وعضوًا فى هيئة المفاوضات بين مصر وبريطانيا التى عُرفت بمفاوضات "صدقى-بيفن"، غير أنها فشلت، وخرج لطفى السيد من الوزارة التى كانت قد شكلت برئاسة صدقى لمواجهة المد الشعبى المطالب بالتحرر والاستقلال، ولم يشترك بعد ذلك فى أعمال سياسية أخرى. وكان أحمد لطفى السيد أول من دعى ليكون للمرأة مكان فى الجامعة، وكان رفيقا لقاسم أمين، وكذلك لا يتصور البعض أن هذا الرجل الذى يدير جامعة، ويترجم أرسطو، ويقف وزيرا للمعارف مرة وللدولة مرة أخرى، أن يكون عاشقا، ولكن صداقته وعلاقته وولعه بالآنسة مى، ورسائله إليها تدل على رقته الشديدة وعذوبته المطلقة، وهو الذى نصحها بقراءة القرآن لكى تتعلم اللغة العربية جيدا، وأهدى لها نسخة منه، ويكتب لها قائلا: «أذكرك فى كل وقت، ولا أجرؤ أن أكتب إليك إلا فى ميعاد الزيارة، لكى لا أضطرك مكرهة بتقاليد الأدب أن تردى على بالكتابة كلما كتبت إليك». واليوم وبعد خمسين عام من رحيل رجل من أبرز رجالات مصر ، أؤكد حقا أن مصر لا تفتقر إلى أى شىء سوى أن يكون هناك رجال سياسة عظماء ولهم دور مؤثر وفعال مثل "لطفى السيد ". Comment *