نتكلم الآن عن الاتجاه الثاني الذي يناوئ المنهج العقلي، وخالف الحكماء، وهو: الاتجاه الثاني:هو الاتجاه الديني النقلي السلفي الذي يعتمد على ظواهر النصوص الدينية فقط، بنحو سطحي جامد، وبقراءة سلفية ماضوية مجردة عن أي نحو من التعقل أو الفهم العميق، وقد بنى رؤيته الكونية على هذا الأساس، فهو وإن آمن بالمبدأ الإلهي والمعاد الأخروي، وأن للإنسان حقيقة معنوية وراء طبيعته المادية، إلا أنها كانت رؤية كونية ساذجة وقاصرة، رؤية سطحية وضحلة، وخالية من الفلسفة الحقيقية للعالم والحياة. وقد انعكس ذلك على أيديولوجيته الأخلاقية والسياسية، حيث تبّنى أيديولوجية سطحية متشددة، يشوبها التعصب والتحجر. ويمكننا أن نشير بنحو موجز إلى سلبيات هذا الاتجاه: أولا تشويه صورة الدين في نظر أكثر الناس، وتنفيرهم من التدين، بعد أن سلبوا الدين أعز وأجمل ما فيه وهو التعقل والتفكر، والتسامح والمحبة. ثانيا العجز والتخلف عن مسايرة التطور العلمي والاجتماعي والحضاري، بعد جمودهم على ظواهر النصوص الدينية، والعيش بعقلية الماضي. ثالثا ظهور الحركات الدينية التكفيرية المتطرفة، وانتشار ظاهرة الإرهاب، وتأجيج الصراع والتناحر الطائفي. رابعا دعم الاستبداد السياسي الديني، وإضفاء الشرعية على الأنظمة السياسية الجائرة المتلبسة بالدين، ومحاربة حركات التحرر والإصلاح والتغيير. هذا الاتجاه اعتمد على ظواهر النصوص الدينية كأساس معرفي وحيد له، فنذكّره فقط بأن النصوص الدينية مع تقديرنا وتقديسنا واحترامنا لمصدر انتسابها لا يمكن أن تكون منطلقا معرفيا للإنسان الباحث عن الحقيقة، حيث إنها تأتي في مرتبة متأخرة في السلم المعرفي للإنسان، لأنها تحتاج إلى من يثبت صحتها أولا، وصحة طرق التعامل معها ثانيا. بيان ذلك: إن الذي يعتمد على النص الديني، ينبغي عليه أن يثبت لنا بل لنفسه أولا وجود مبدأ إلهي حكيم مدبر للوجود، وأنه ثانيا قد أرسل لنا الرسل والأنبياء بالرسالة الإلهية، وأنزل الكتب السماوية من أجل هداية الناس، وأنه جامع الناس بعد ذلك ليوم القيامة ليحاسبهم على أعمالهم، فيثيب المحسن ويعاقب المسيء. ثم إن هناك أديان وملل ونحل كثيرة تدعي كلها أنها إلهية وسماوية، وفي داخل كل دين مذاهب متعددة تدعى أنها هي الأصيلة،وأنها التي تمثل هذا الدين، وفي داخل كل مذهب هناك قراءات متعددة تدعى كل منها أنها هي القراءة الصحيحة لهذا المذهب. فعلى الذي يعتمد على النص الديني أن يثبت لنا أولا صحة هذا الدين، وصحة هذا المذهب المنتسب إليه النص، وصحة هذا الفهم وهذه القراءة للنص. ومن هنا يتبين لنا أن القفز على كل هذه المراحل المعرفية، وعدم الإجابة على كل هذه الأسئلة المنطقية التي لا مفر منها، واللجوء المباشر للنص، وتفسيره بنحو شخصي أو ذوقي، ومحاولة فرضه على الآخرين، هو أمر مجاف للواقع، ومغامرة خطيرة تجعل الإنسان في معرض الانحراف العقائدي، والفهم الخاطئ للدين، وتدفع بنا إلى الوقوع في أتون الفتن والصراعات المذهبية، كما هو واقع بالفعل.