لا يمتلك المرء سوى توخي الحيطة والحذر عند قراءة الشهادات والمراجعات الفكرية لقادة التنظيمات والأحزاب السياسية الذين خرجوا أو قل تمردوا وانشقوا عن تنظيماتهم، فقلما تجد بين سطور ما يكتبونه أدلة دامغة ومصادر موثقة تبرهن صدقية ما يسوقون من روايات حول أسرار ودهاليز تنظيماتهم السابقة، وحتى ان وجدت تلك الحقائق فإنها تبقى في حاجة لمزيد من البحث والتوثيق وإخضاعها لمجريات الواقع المعاش، هذا إذا جرى الاتفاق على أن أصحاب تلك المراجعات والمذكرات احتلوا مراكز قيادية لفترات ليست بالقصيرة في تنظيماتهم السياسية تجعل فرضية تصفية الحسابات قائمة. وفق هذا التقدير، وفي واقع أصبح فيه الإخوان المسلمون قوى فاعلة في المشهد السياسي الحاكم لمصر ودول عربية أخرى، فقد حاول المرء الفكاك من حبائل الاستسلام للعديد من تلك المذكرات والمراجعات الفكرية، وكان أخيرها وليس آخرها شهادة القيادي الاخواني السابق ثروت الخرباوي والتي صدرت مؤخراً في كتاب تحت عنوان "سر المعبد"، فرغم ما اعتمر به الكتاب من روايات مثيرة وصادمة من داخل كواليس الجماعة التي غادرها أو أجبر على مغادرتها في عام 2002، إلا أن باب العلم بالشئ يبقى (وفقط) هو المدخل الرئيسي لتتبع بعض التفاصيل والمواقف التي أوردها المؤلف، خاصة إذا دار بعضها خلف الأبواب المغلقة وكان بعض أبطالها في عداد الأموات وخلت من الوثائق الداعمة والقاطعة لأي شك. لا حيلة إذن سوى الاحتفاظ في زاوية مهجورة من العقل ببضع روايات منسوبة للمرشدين السابقين مصطفى مشهور ومأمون الهضيبي تحدثا فيها عن الأقباط ونقابة المحامين المصريين بنهج استعلائي تصادمي وصل لمستوى التكفير والتحقير، أو تلك التي اعتبر الهضيبي فيها الاغتيالات التي قام بها التنظيم الخاص للجماعة قبل ثورة يوليو 1952 تقرباً الى الله، أو وصل الأمر الى رواية ساقها المؤلف حول واقعة تزوير فجة شهدتها الانتخابات الداخلية للجماعة لصالح نجل المرشد الأول ومؤسس الجماعة حسن البنا. لكن، وللحق، فإن ما تحدث عنه المؤلف حول دهاليز علاقات الإخوان بالولاياتالمتحدة قد استحق وقفة جادة مني على الأقل، في ضوء موقف عابر جمعني بأحد الدبلوماسيين الأمريكيين 2006 حاول خلاله بمكر مفضوح اختطاف الحوار بيننا والولوج به الى استقصاء رأيي الشخصي كصحفي مصري حول الدور المستقبلي لجماعة الاخوان المسلمين وهو ما فطنت له جيداً وكان ردي بنفس درجة رمادية وغموض محاولته الاستقصائية المراوغة، على أية حال فقد روى المؤلف في كتابه مخرجاً شرعياً ساقه أحد أعضاء مكتب ارشاد جماعة الإخوان السابقين (ينتمي الى مسقط رأسي طنطا بدلتا مصر) حول جواز الاستعانة بمن وصفه ب (الكافر) في سبيل الوصول للحق، وبرر ذلك باستعانة الرسول الكريم (ص) بكافر ليدله على الأثر وهو في هجرته الى المدينة (!!). وعلى ما في هذا القياس الإخواني من عوار وتوظيف ممجوج للدين يتلاعب بظروف الزمان والمكان والموقف النبوي، لكن اللافت ما كشفه القيادي الإخواني السابق من حوارات ولقاءات جرت بين الناشط الحقوقي الدكتور سعد الدين ابراهيم والمعروف بدوائر اتصالاته الواسعة مع الغرب وبين قيادات بالجماعة خلف قضبان سجون مبارك وخارجها، والتي دارت في مجملها حول الصورة الذهنية للغرب وأميركا عن جماعة الاخوان المسلمين، والأسلوب الأمثل لفتح قناة اتصال الإخوان بالغرب وأمريكا، وحسب الكاتب فإن الدكتور سعد يبذل جهده في هذا الأمر. ولعل من يمن الطالع ألا ترهق المرء الأحداث بحثاً عن توثيق تلك المرحلة التاريخية الهامة والتي تشكل أصداؤها اليوم واقعاً جديداً ليس في مصر فحسب بل في العالم العربي بأسره، فقد خرجت تصريحات واضحة من مهندس تلك الاتصالات الدكتور سعد الدين ابراهيم لصحيفة (الوطن) المصرية كشف في أسطرها عن أن " اثنان من قادة الإخوان كانا معه في السجن وكانا جزءاً من الحوارات السياسية التى فتحوها مع الأوروبيين منذ بداية عام 2003 فى النادى السويسرى وحدث ذلك 3 مرات". وحسب رواية سعد الدين ابراهيم فإن اللقاءات مع الأمريكان تأخرت قليلاً لأن السفير الأمريكي بالقاهرة لم يستطع الحصول على تفويض من واشنطن للسماح له بمقابلتهم، فقد كانت أحداث 11 سبتمبر ما زالت تؤثر على القرارات الأمريكية، لكنه كان صديقاً للسفير البريطاني، الكندي، الاسترالي الذين يجتمعون بالإخوان، ثم يجلس السفير الأمريكي معهم لمعرفة نتائج هذه الحوارات"، بل وكشف ابراهيم أيضاً أن الاخوان اتصلوا من خلال قناته بالأمريكان بعد قيام ثورة 25 يناير وطلبوا تحديداً الاتصال بكل من سيناتور جون كيرى (الحزب الديمقراطي) وسيناتور جون ماكين (الحزب الجمهوري) فهم يريدون فتح حوار مع التيارين. ولأن المقدمات التاريخية تؤدي الى نتائج واقعية، ومع ذلك التناغم الكبير في الروايات والذي يصل الى حد الانطباق، وغياب حجج اخوانية مقنعة تستطيع تكذيب أو دحض هكذا روايات، فقد يكون من العسير التشكيك في ما كشفته صحيفة واشنطن (بوست الأمريكية) من كواليس للقاءات الدكتور عصام الحداد مساعد الرئيس مرسي للشؤون الخارجية مع مساعد الخارجية الأميركي مايكل بوزنر، بداية عام 2012 وعرض الحداد فيها دوراً لمصر في ما يوصف بالتغيير الديمقراطي في شمال أفريقيا. وينبغي أيضاً اثبات عكس ما تكشف من تفاصيل خطيرة في واقعة موافقة الرئيس المصري الدكتور محمد مرسي علي وضع مجسات مراقبة في سيناء تدار باشراف أميركي وأن هذه العملية دخلت بالفعل حيز التنفيذ، وأن مرسي وافق علي شروط واجراءات كان الرئيس المخلوع حسني مبارك يرفضها رغم تحالفه الوثيق مع الولاياتالمتحدة واسرائيل. ليس مثيراً للدهشة، أن يخرج الرئيس مرسي في خطابه الأخير أمام مجلس الشورى ليعيد تكرار المكرر في الحديث عن احترام الاتفاقات الدولية والتي فيما يبدو ستبقى لازمة وكلاشيه طمأنينة سياسية ل(كامب ديفيد واخواتها) في الخطاب السياسي المصري في عهد مرسي، بل وحديث عن عدم قبول تدخل الآخرين في الشأن المصري فيما يبدو النص المفقود في الخطاب الرئاسي هو دون توجيه الدعوة لهؤلاء الآخرين بالتدخل، لأن مرسي وجماعته فتحوا الباب على مصرعيه للأميركان لترسيخ تدخلاتهم. ووصل الأمر مداه ليس فقط سماح الإدارة الإخوانية بتركيب المجسات التنصتية الأمريكية في سيناء، بل وأيضاً تسويق أحد قادة الاخوان المسلمين لاقتراح يمهد لاختراق صهيوني لمصر تحت ستار عودة اليهود الذين خرجوا من مصر عقب ثورة 23 يوليو 1952 المجيدة، بما قد يجره هذا التصريح من ويلات مطالبة هؤلاء الصهاينة بتعويضات مالية فادحة مثلما حدث في قضية الأرمن وتركيا، أوعودة هؤلاء الذين كانوا جنوداً في جيش الاحتلال وعملاء لاستخباراته بمشاريع وأحلام ومخططات تستهدف للأمن القومي المصري. وما بين سر أسرار معبد الخرباوي حتى اقتراح عودة الصهاينة، يبقى الفهم حتى هذه اللحظة أن آداء النظام السياسي المصري في طريقه الى تحول تاريخي من دور الحارس الأمين لمقدرات المستعمرة الأمريكية في العصرين الساداتي والمباركي، إلى دور الكاهن الطيع المتبتل في معبد الإمبراطورية الأمريكية باستعداده الدائم لاطلاق البخور وإقامة الصلوات دون حتى اغتسال من اسهال التنازلات التاريخية المجانية التي يقدمها.. وإذا كان التمكين من كرسي الحكم هو ثمن هذا المشهد العبثي غير المسبوق .. فالقدر المتيقن من الحقيقة أن رسالة المصريين في ال25 من يناير 2011 لم تصل بعد!! Comment *