"أي ذنب جنيت حتى حامت حولي الشبهات؟ ماذا يقول عني دعاة السوء ؟" هكذا بدأ سقراط دفاعه عن نفسه أمام محكمة الشعب وقضاة الشعب، وخاض نقاشاً طويلاً أمام المحكمة والمحلفين، لكي يثبت لهم عدالة قضيته وبرائته مما هو منسوب إليه .. ولكن جاء حكم الأغلبية وارادة الشعب قاسياً فحكموا عليه بالإعدام!. "أيها الأثينيون! لن تفيدوا بقتلي إلا أمداً قصيراً، وستدفعون له ثمناً ما تنطلق به ألسنة السوء تذيع عن مدينة العار.. ستقول عنكم أنكم قتلتم سقراط الحكيم ولو لم أكن حكيماً تقريعاً لكم" هكذا كان تعليق سقراط على الحكم بإعدامه. في القرن الخامس ق.م كانت أثينا في نظر مواطنيها قد بلغت ذروة مجدها وتطورها الفكري، كانت في نظر شعبها مدينة مثالية، وكانت أول من طبق نظرية "الشعب مصدر السلطات".. أعطت أثينا الحكم للشعب واعتبرت أن رأي الأغلبية يعني بالضرورة "الحق" .. وانبرى الناس يقرأون في كل مكان خطبة بيريكليس العظيمة التي وضعت أساس حكم الشعب .. وظهرت في قاموس العالم السياسي كلمة "ديموقراطية" التي تعني باليونانية حكم الشعب. وفي نفس هذه الفترة ظهرت شريحة في المجتمع الأثيني "فهمت اللعبة" كما يقال، وعلمت كيف تدار الأمور في نظام ديموقراطي، وهم مجموعة من المحامين "المتكلمين" الذين تصدوا للدفاع في المحاكم عن المتهمين أمام المحلفين، أتقنوا اللعب بالألفاظ ودغدغة المشاعر بالخطب والكلمات المعسولة وصنع المغالطات المنطقية، واعتمدوا منطق صناعة الجدل والاعتماد على المشهورات والمقدسات لدى الناس، وكان هذا كفيلاً بصنع صدع في المجتمع الأثيني حيث أصبح الحق نسبياً، والواقع ليس حقيقياً، وأصبحت القدرة على اقناع العامة وحصد الأغلبية هي السبيل الوحيد للنجاح، لأنهم أصحاب القرار النهائي، ولأن الأغلبية دائما على حق. وفي هذه الأثناء ظهرت شخصية سقراط الذي يحيط به كثير من الغموض، كان شخصاً عادياً ولكنه فقط يريد أن يعرف، فألف مجالس المتكلمين والحكماء في مدينته يسألهم فيناقشهم فيجد في نفسه ان اجاباتهم ليست منطقية وأنهم يغالطون الناس، ذاع صيته وهو يقول انه لا يعرف شيئاً، ولكنه أفضل من غيره لأنه يعرف أنه لا يعرف، وانتشر ذكره وهو يقول ان غاية مطلوبه ان يعرف الحقيقة لا أكثر، التف حوله الشبان وطلبة العلم يستمعون لأسئلته ومناقاشته فيسقط على يده حكيماً مشهوراً تلو الآخر، وهو يوضح للناس أنهم مخدوعين واهمين. بدأت الحرب ضد سقراط، من جميع الجهات، إعلامياً حيث قام أشهر مؤلفي المسرح "أريستوفان" بعمل مسرحية تسخر منه اسمها "السحب".. والمسرح كان في بلاد اليونان هو أقوى وسيلة إعلامية تحرك الرأي العام، وبدأ الحكماء ورجال الدين يحذرون الناس منه ومن فتنته وضلاله. وفي عام 469 قبل الميلاد تم رفع دعوى ضد سقراط أمام المحكمة في أثينا .. "بشكل قانوني خالص" بتهم منها: - افساد شباب الوطن - الكفر بدين البلاد - عدم احترام القانون وبعد خطبة دفاعية شهيرة قام بها سقراط أمام المحكمة، مازالت خالدة ليومنا بعد ان دونها تلميذه أفلاطون، استخدم أعداؤه أساليب دغدغة المشاعر والمغالطات المنطقية كما اعتادوا، فكان رأي الشعب حاسماً: "اقتلوا سقراط" .. وتم اعدامه بشرب السم!. وظلت الديموقراطية إلى يومنا تبكي قتلها لسقراط، وتندب حكمها عليه بالموت، وكان أفلاطون قد صدمه الموقف أيما صدمة، فانكب يدرس ويتأمل ويتعلم حتى خرج بمفهومه السياسي ونظريته الحضارية "جمهورية أفلاطون" التي يدير فيها الشعب شئونه بنفسه ولكن توجيه الحكم فيها يكن في أيدي الفلاسفة الحكماء العقلانيين، وهو ما عرف باسم "يوتوبيا"، ورأى أفلاطون أن رأي الأغلبية يكون في إدارة شئون الوطن، وليس في تحديد مفاهيم الخطأ والصواب وصنع القانون.. لأن الخطأ والصواب ليسوا نسبيين. التساؤل الآن: "هل الأغلبية تدل على الحق والباطل؟" أم أنه يجب ان تحدد معايير الحق والباطل باستخدام العقل والمنطق لتصبح أسساً لا يعلو فوقها صوت حتى لو كان صوت الأغلبية ؟ التساؤل هنا أيضاً: "هل الدستور يعبر عن صوت الأغلبية، أم انه يعبر عن الحق والباطل عقلاً؟" أو من جهة أخرى هل رأي الأغلبية هو الحق ورأي الأقلية هو الباطل؟، وهل يمكن اعتبار الدستور مجازاً هو الحكيم المرشد في جمهورية أفلاطون؟.. أم أننا سنظل في احتياج لدستور ناطق.. لعاقل حكيم من الفلاسفة العقلانيين المجردين عن الهوى والموروثات كما يرى افلاطون؟ يجب أن نجيب سريعاً حتى لا يقتل من بيننا سقراط مرة أخرى، ونجلس نبكيه عبر السنين.