لقد غضبت المدينة على سقراط لسبب لا يتعلق ب«هدم المنشآت» ولا «مخطط لإسقاط الدولة». لم يكن أشرار تلك الأيام من الغباء، بحيث يبالغون فى قوة المستضعفين إلى هذا الحد. بيد أن سبب غضب المدينة على سقراط لا يقل خطورة عما سبق. غضبت المدينة عليه، لأنه «ينشر أفكارا هدامة». كان سقراط يرتدى ملابس بسيطة، ويسير فى الأسواق لكى يحاور الناس. يوقف بطلا عسكريا (لاخيس) ويسأله: ما الشجاعة؟ ويجيبه العسكرى ما معناه: أن تثبت أمام الأعداء ولا تفر. يتذكر سقراط أن جيش الإسبارطيين فر أمام الفرس. لكنه انتصر فى النهاية. فهل يجعلهم ذلك شجعانا أم جبناء؟ ولاخيس يراجع إجابته الأولى. ويخترع إجابة ثانية. وسقراط يشككه فى إجابته الثانية. وهكذا، حتى يصل به سقراط إلى الإقرار بأن لا فعل محددا يسمى شجاعة. بل إن الشجاعة تحتاج إلى معرفة، واتخاذ للقرار بمقتضى المعرفة، وليس طبقا للمفاهيم الجاهزة. أيستحق إنسان المحاكمة من أجل كلام مثل هذا، لا يستعدى أحدا، ولا يهدد أحدا؟ أتمزح؟ وهل حوكم الناس وشوهت سمعتهم قديما وحديثا إلا من أجل تجرُئِهم على المعارف المسبقة؟ إلا من أجل ترويجهم أفكارا جديدة تتحدى القديم. سقراط جادل العسكرى بهذه الطريقة، وجادل رجل أعمال عن علاقة المال بالسعادة، وجادل سياسيا عن علاقة السلطوية والنفوذ المطلق بالسعادة. شبه للناس فى الأسواق التفكير بتشكيل الفخار. سألهم: هل يستطيع إنسان أن يصنع مزهرية من الفخار لو لم يكن لديه معرفة ولو بأبجديات الحرفة؟ قال لهم إن التفكير لا يقل مهارة عن حرفة صناعة الفخار، ويحتاج إلى تعلم أبجديات التفكير. كان يحضهم على التفكير إذن، بل ويعلمهم خطوات صنع الفكرة. لو نجح فى مهمته لتكون لدى العامة ذخيرة حية من الأفكار، تستطيع أن تفجر عروشا، وتهد مصالح. فى البداية سخروا منه، فى أشهر جهاز دعاية وقتها، عام 423 قبل الميلاد. الفنان المهرج أريستوفان قدم عرضا مسرحيا كاريكاتوريا فى مسرح ديونيساس عن مفكر مشغول عن الدنيا بالتفكير. المفكر يظهر للجمهور جالسا فى كابينة معلقة فى رافعة. فهو يظن نفسه أعلى من الناس. «يجلس فى برج عاجى». فى مكانه المعزول يفكر فى أهم سؤالين فى الدنيا: كم مرة أعلى من طوله يستطيع البرغوث أن يقفز؟ وهل حشرة الحقل تصدر أصواتها من فمها أم من شرجها؟ ويستمر الفنان المهرج فى السخرية من سقراط والناس تضحك. فى المحاكمة، وقف سقراط أمام محلفين عددهم خمسمئة. دافع عن نفسه، عن نمط معيشته، أقر بأنه يهمل فى أمور كالملبس واقتناء المال، لكنه لا يؤذى أحدا، بل يحض الأثينيين على التفكير، لأنه يعتقد أن التفكير الجيد كفيل بتحسين حياة الناس. وحان وقت التصويت الأول: 220 صوتوا بأنه ليس مذنبا، بينما صوت 280 بأنه مذنب. واقترب سقراط من الإعدام خطوة. لكن تعليقه الوحيد على التصويت كان: «لم أعتقد أن الفارق سيكون ضئيلا هكذا». سقراط لم يثق فى رجاحة عقل الناس. حتى لو كانوا المحلفين المفترض أنهم مختارون بعناية من بين المواطنين، ممن عرف عنه رجاحة العقل والنزاهة. لذلك فإدانته من قبل 56٪ فقط من الناس مفاجأة «سارة». حين وصل الأمر إلى الاتهامات طلب مهلة يوما لإعداد الدفاع، لأن المهلة الممنوحة له للرد لا تكفى. كانت المهلة الممنوحة له دقائق قليلة، وقت انسكاب الماء من قارورة إلى أخرى عبر فتحة ضيقة، على طريقة الساعة القديمة. لكن المحكمة رفضت طلبه. وهذه المرة 360 عضوا من المحلفين صوتوا لصالح إعدام الفيلسوف. كان سقراط يعتبر أن «من القوة أن لا تتعامل بجدية مع وجهات نظر الآخرين». وهذه الجملة تحتاج إلى تفصيل. يعنى بهذا أن تركزى أكثر على الآلية التى وصلوا بها إلى استنتاجهم أكثر من استنتاجهم نفسه، وأن تتواضعى أمام التفكير الجيد. أن يكون رأىُ شخص تثقين بالطريقة، التى يبنى بها رأيه أهم من رأى أغلبية من المقلدين كالببغاوات، حتى لو وافق رأىُ الأغلبية رأيَك، وخالف رأىُ الواحد رأيَك. ركزى على الحوار أكثر مما تركزين على سماع الاستنتاجات، ثم ترديدها عبر «تويتر» و«فيسبوك». اجعلى الجنس البشرى آخر همك، وافعلى ما تفعلين لأجل نفسك. فمعظم الناس لا يجيدون تشكيل الفخار. وأخيرا: «لا تستوحش طريق الحق لقلة سالكيه»، كما قال على بن أبى طالب.