تحت عنوان تأملات في هموم مصر الأساسية، يناقش د رمزي زكي مشاكل مصر الاقتصادية، وهو حين يفعل ذلك لا يخفي انحيازه للفقراء الذين زاد فقرهم بتناقص نصيب أجورهم من الدخل القومي لمصر من 48% عام 1972الي 27% عام 1994. وهو يري إمكانية مضاعفة دخل مصر القومي خلال عشر سنوات عبر سياسات اقتصادية يحدد لها هدفا أساسيا هو زيادة الناتج القومي من السلع والخدمات بمعدل سنوي قدره 7,2 %، وهذا بالطبع يتطلب تنفيذ العديد من المشروعات الإنتاجية . ويعني ضرورة الوصول بمعدل الاستثمار السنوي إلى28% من الناتج المحلي الإجمالي، ليعطي العائد المطلوب. فما هو المانع؟ إنها السياسة الانكماشية التي فرضها صندوق النقد والبنك الدوليين علي مصر. وعلي العكس من تلك السياسات الانكماشية فإن المطلوب مجموعة من السياسات الحافزة على الاستثمار والنمو، منها: خفض معدلات الضغط الضريبي، وخفض سعر الفائدة، وزيادة الإنفاق العام الاستثماري، وحماية الإنتاج المحلي وضبط بوابة التجارة الخارجية وزيادة التوظيف والأجور، أي زيادة نصيب العمل من الدخل القومي حتى تزداد قوى الطلب لتقضي علي الركود بالسوق المصري. في رؤاه لأزمات مصر الاقتصادية ورؤاه لحلولها، لا يخفي رمزي زكي إدراكه العميق لطبيعة التكوين الاجتماعي والسياسي الذي أفرز هذه المشكلات وقدرات هذا التكوين على حلها، فهو حين يضع الحلول اللازمة لمثل هذه الأزمات، لا يتجاوز قدرة الجسد المريض علي تحمل العلاج، وبالأحرى تنفيذه والاستفادة منه، فيتجاوز بذلك عجز الناقد المتفرج إلى عمق المدرك لما يعانيه وطنه وحاجته لمعرفة الطريق. وحين يرفض بشدة الإعلان عن قابلية التحويل للجنيه المصري كطلب صندوق النقد الدولي، فإنه يشير إلى حقيقتين، أولهما أن دولا من غرب أوروبا رفضت إطلاق حرية تحويل عملاتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية قبل أن تصل باقتصادياتها إلى مرحلة التوازن الذي استطاعت معه أن تتواجد في الاقتصاد العالمي من موقع القوة، والمثال هنا من دول غرب أوروبا فلماذا كان علينا دائما أن نكون ملكيين أكثر من الملك! الحقيقة الثانية أن حالة الازدواجية النقدية - ما بين دولار وجنيه - في مصر وما يقابلها من ازدواج سعر الفائدة، سيدفع رؤوس الأموال الباحثة عن الأرباح السريعة في السوق العالمي إلى الاستفادة من هذه الحالة الفريدة لتحقق أرباحا من غفلتنا، بالسحب من هنا والإيداع هناك والاستفادة من فرق سعر الفائدة! ولكنه لا يرفض إطلاق حرية التحويل، بل يحدد الشروط الواجب توافرها لتقدم مصر علي هذه الخطوة ولا نندم بعدها كما جرت العادة. 000 من ناحية أخرى فإنه يحدد المشكلات الاقتصادية الأساسية التي تواجه مصر بأربعة مشكلات (عويصة) هي عجز الموازنة العامة والتضخم والبطالة والمديونية الخارجية . ينشأ عجز الموازنة العامة نتيجة لازدياد الإنفاق العام للدولة مع ضعف الإيرادات وتناقصها، هذا الإنفاق يشمل الأجور والمرتبات والدعم للسلع الشعبية الأساسية والتكاليف الاستثمارية للمشروعات الكبرى أو ما اصطلح عليه بالقومية، ويشمل كذلك كافة مصاريف الحكومة الجانبية من بدلات وانتقالات وعقد المؤتمرات ..الخ. ويتم خفض هذا العجز طبقا لتوجهات الحكومة القائمة الاجتماعية: إما بإلقاء العبء علي عاتق الفقراء بإلغاء الدعم للسلع الضرورية والطاقة وتجميد التوظيف، وبزيادة الضرائب العامة المباشرة وغير المباشرة، وإما عن طريق طبع البنكنوت وزيادة الائتمان المصرفي الممنوح للحكومة، وما يعنيه ذلك ايضا من ازدياد التضخم المحلي وارتفاع الأسعار مع ثبات الأجور، أي مزيد من إفقار الفقراء. وقد يتم تمويل هذا العجز بالاقتراض من الخارج، أي بزيادة المديونية الخارجية. ومن ناحية أخرى وبتوجه اجتماعي آخر لصالح الفقراء يمكن القضاء علي عجز الموازنة بخفض حاسم للإنفاق الحكومي في مستويات الإدارة العليا ومنع البدلات واستحداث المناصب وخفض عقد المؤتمرات إلا الضروري منها للوجود الفعال علي ساحة العمل الدولي، وتمويل الإنفاق الحكومي من خلال تنفيذ مشروعات كبرى يحقق الاستثمار فيها عائدا حقيقيا ويخلق فرص عمل جديدة ويزيد من الناتج القومي العام، بالطبع مع الدراسة المتأنية لجدوى هذه المشاريع، يقوم بها متخصصون بعيدا عن تأثير القرار السياسي. لجأت الحكومة لمواجهة عجز الميزانية وتحت ضغط صندوق النقد الدولي وبطلب منه، إلى طرح أذون الخزانة بدءا من يناير 1991، وبأسعار فائدة عالية لاجتذاب الفوائض المالية، مما أدى إلى نمو سريع في حجم الدين العام الداخلي وصل في ميزانية العام الحالي إلى 150 مليار جنيه، مما أدى إلى تزايد أعباء خدمته وأضعف الاستثمار في قطاعات الإنتاج المادية الصناعية أو الزراعية، حيث يفضل المستثمرون العائد المضمون المرتفع في تلك السندات. .................... يشير د. رمزي زكي في إيجاز شديد التركيز إلى الآثار الاقتصادية والاجتماعية المدمرة لمشكلة التضخم، وكل أثر من هذه الآثار كفيل أن يستدعي إلى ذاكرة أي منا العديد من الأمثلة التي نراها حولنا ونعايشها معايشة يومية، وهو إيجازلا يدع معه مجالا لإيجاز آخر، ولنرى ماذا يقول: (.. فالتضخم إذا انطلق من عقاله ، واندفع بقوة عاما بعد الآخر ، فإنه يؤدي إلى زيادة العجز في ميزان المدفوعات لأنه يعرقل الصادرات ويشجع الواردات وينمي ظاهرة هروب رأس المال للخارج. كما أنه يؤثر علي الاستثمار سلبا لأنه يؤدي إلى استحالة حساب التكاليف المقدرة للمشروعات الاستثمارية والخطط الإنتاجية بسبب عدم استقرار قيمة النقود. وهو يشوه اتجاهات الاستثمار حيث يفضل المستثمرون في ظروف التضخم استثمار أموالهم في المشروعات الخدمية ذات العائد السريع. إلى جانب تأثيره السلبي على الادخار، لأنه يخفض من مستوى الدخل الحقيقي ويرفع من الميل للاستهلاك وإلى سلبية سعر الفائدة الحقيقي. كما أنه يؤدي إلى زيادة العجز في الموازنة العامة للدولة، لأنه يرفع من حجم الإنفاق العام في الوقت الذي تنخفض فيه الإيرادات الحقيقية للدولة. وحينما تتدهور قيمة النقود في غمار التضخم تظهر ظاهرة الدولرةDollarization أي هروب الناس من العملة الوطنية واللجوء إلى العملات الأجنبية "كالدولار" الأكثر ثباتا في قيمتها كمخزن للقيمة المدخرة. أما علي المستوي الاجتماعي فآثاره جد خطيرة، لأنه يزيد من غنى الأغنياء ويزيد من فقر الفقراء. كما أنه ينمي ظاهرة الاقتصاد السري " الرشوة والفساد الإداري وعمليات التهريب والسوق السوداء ....الخ" وأخيرا وليس آخرا ، يؤدي التضخم إلى تدهور سعر الصرف للعملة الوطنية) يتساءل رمزي زكي بعد ذلك كيف يمكننا أن نحد من التضخم دون اللجوء للسياسات الانكماشية والتي قد تنجح في أن تخفض معدل التضخم السنوي، ولكن مقابل خلق حالة من الغلاء الشديد الذي يصعب علي كثير من الفئات الاجتماعية التعامل معه، وهو ما يشكل الأغلبية الساحقة من المصريين. والحل يكمن في معرفة سبب تفاقم هذه الأزمة، وهو توقف جهود التنمية واعتماد سياسة ليبرالية السوق. يتبع Comment *