هل كان البوعزيزي يعرف وهو يشعل النار في نفسه أنه يحرق نفسه ليضيء الدرب للآخرين؟ وهل أدرك بن علي الآن أن البوعزيزي وهو يشعل النار في ملابسه، كان في الواقع يشعل النار في نظامه بأكمله؟ وهل علمت ليلى بن علي (الملقبة شعبياً بسرّاقة أموال اليتامى) أن النار التي أكلتها في جوفها هي وأهلها من آل الطرابلسي أشد من تلك التي أكلت جسد البوعزيزي؟ محمد البوعزيزي هو عنقاء اشتعلت فنهض من رمادها شعب بأكمله ولأن التاريخ ليس مبدعاً بما فيه الكفاية، فهو كثيراً ما يكرر نفسه، بلغات مختلفة، وفي أزمنة مختلفة. لم يعلم البوعزيزي أنه سيعيد كتابة قصة مر عليها ما يقارب خمسين عاماً كان بطلها راهب بوذي فيتنامي. كان ثيك جوان دوك راهباً بوذياً في السادسة والستين من عمره عندما انتحر حرقاً في مفترق طريق مزدحم في مدينة سايجون عاصمة فييتنام الجنوبية يوم 11 يونيو 1963. لم يكن دوك بائعاً متجولاً، بل كان راهباً. ولم تصفعه شرطية متعجرفة يساندها نظام مستبد كما صُفع البوعزيزي، ولكن صفعه اضطهاد نظام الرئيس “نجو دين ديم” (الكاثوليكي المدعوم أمريكياً) للأغلبية البوذية. لم يكن الإنترنت قد جاء إلى الوجود آنذاك، ولكن صحفياً أمريكياً قام بالتقاط صور واقعة الانتحار، وصحفياً آخر كتب تقريراً معبراً عن الواقعة وخلفياتها المؤلمة. جاء في وصف الصحفي الأمريكي ديفيد هالبرستام للواقعة: “لم تهتز منه عضلة واحدة، ولا صدر عنه صوت واحد وهو يحترق، وكانت رباطة جأشه هذه تتناقض تماماً مع مشهد الذين ينتحبون حوله” يدهشني جداً خطاب ديم الإذاعي الذي ألقاه في نفس يوم انتحار دوك، إذ قال إنه تأثر بالواقعة بشدة، وطالب “بالهدوء والوطنية” وأعلن عن نيته تنفيذ إصلاحات تصب في مصلحة البوذيين، مدعياً أن بعض “المتشددين” لووا أعناق الحقائق. هل يذكرك هذا بشيء؟ بعد وفاة دوك (التي نجحت في لفت أنظار العالم إلى سياسات ديم الجائرة) أعيد حرق رفاته، ولكن العجيب أن النار لم تأكل قلبه رغم تحول رفاته بالكامل إلى رماد، فاحتفظ البوذيون بالقلب الذي اعتبروه مقدساً في كأس زجاجية بمعبد “تشوا خا لوي” واعتبروا صاحب هذا القلب الناجي من النار “بوديساتفا” (أي “متنوراً” أو قديساً)، وقد زادت هذه “الكرامة” من تأثير وفاة “دوك” المأسوية على قومه المضطهدين. انتشرت صور انتحار دوك في العالم على نطاق واسع، مما أدى إلى إدانة دولية لممارسات نظام ديم. وتحت الضغوط الدولية المتزايدة على ديم أعلن عن نيته في تطبيق بعض الإصلاحات مهادنةً للبوذيين، ولكنه ماطل في تنفيذها، فتواصلت الاحتجاجات، مما أدى بالقوات الخاصة التابعة لشقيق ديم إلى شن حملات ترويعية على المعابد البوذية على امتداد البلاد (حاولت القوات الخاصة في إحدى هذه الحملات الاستيلاء على رماد جثة دوك ولكن راهبين نجحا في الفرار به من المعبد، في حين تمكنت القوات الخاصة من الاستيلاء على قلب “دوك” المقدس) وقد قُتل في تلك الحملات العديد من البوذيين وتعرض الكثير من ممتلكاتهم للتخريب. ورداً على هذا التعنت قام العديد من الرهبان البوذيين بتكرار ما فعله دوك والانتحار العلني حرقاً، وزادت زوجة شقيق ديم غليان البوذيين عندما وصفت إحدى وقائع الانتحار هذه بأنها “باربيكيو”، قائلة إنها “ستصفق بحرارة وهي تشاهد عرض باربيكيو جديد يقوم به راهب آخر”. وفي أواخر يونيو ادعى نظام ديم أن دوك كان تحت تأثير المخدرات عندما دفعه زملاؤه إلى الانتحار، كما ادعى أيضاً أن المصور الأمريكي مالكولم براون قام برشوة دوك ليدفعه إلى إحراق نفسه!!! هل يذكركم هذا بشيء ما؟ هل يذكركم هذا بالفضائيات الأجنبية التي تثير الفتنة؟ في نهاية الأمر أدت الضغوط الدولية إلى انقلاب الإدارة الأمريكية (إدارة جون كينيدي) على نظام ديم الذي كان حليفاً محورياً لهم في المنطقة، وانتهى الأمر بانقلاب عسكري أودى بحياة “ديم” نفسه في نوفمبر من نفس العام. هكذا كانت واقعة إحراق دوك لنفسه نقطة فاصلة في تاريخ فيتنام أدت إلى تغير نظام الحكم بأكمله، تماماً كما صارت واقعة إحراق محمد البوعزيزي لنفسه بعد ما يقارب نصف قرن نقطة فاصلة في تاريخ تونس. كيف تموت يا بوعزيزي وقد أحيا الله بموتك عشرة ملايين نفس؟ كيف تموت وقد أظهرت نارك الذهب الذي يكمن في أولئك التونسيين البسطاء ذلك الذهب المسمى بالحرية إنها النار التي تحرر الشعوب، وتحيل الطغاة إلى رماد مواضيع ذات صلة 1. وفاة الشاب التونسي الذي أحرق نفسه وتسبب في اندلاع انتفاضة البطالة 2. منظمات حقوقية تطالب الحكومة ببرنامج قومي للتربية الجنسية.. و مدونون يطلقون مدونة للتثقيف الجنسي 3. انتفاضة البطالة تتصاعد في تونس.. والشرطة تفتح النار على المتظاهرين وتقتل4 مواطنين