لا ينكر أحد نضال الزعيم مصطفى كامل رحمه الله في ودوره في الحركة الوطنية في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بعد هزيمة الثورة العرابية ونفي زعيمها، وكذلك إنجازاته في حشد مشاعر الشعب المصري ضد الاحتلال البريطاني وخلق وعي دولي بفظائع الاحتلال التي يرتكبها على أرض مصر وفي مقدمتها مذبحة دنشواي. لكن هذا النضال شابته شائبة خطيرة في توجهه، فالفكرة الوطنية المصرية لم تكن واضحة عند مصطفى كامل باشا كما كانت واضحة في ذهن الزعيم السابق عليه وهو "أحمد عرابي باشا" والزعيم التالي له وهو "سعد زغلول باشا". فمقالات مصطفى كامل في الأهرام ثم اللواء وكذلك كتابه "المسألة الشرقية" وخطبه ومراسلاته وأقواله المأثورة كلها تشير إلى قناعته الراسخة بأن حماية مصر ودول الشرق الأوسط من الاحتلال الأوروبي وأطماع الدول الاستعمارية تتأتى فقط من خلال توطيد علاقة مصر والشرق بالدولة العثمانية، بل ذهب لأكثر من هذا فجعل الدولة العثمانية ضرورة لاستقرار البشرية كلها، وهي فكرة بالطبع لا تخلو من المراهقة الفكرية. وربما كانت لظروف تربية أحمد عرابي الريفية فضل في ترسيخ فكرة الوطنية المصرية لديه، فالفلاح كان أكثر الناس اكتواء بالظلم التركي قبل أن يأت الاحتلال البريطاني، بينما كانت نشأة مصطفى كامل في بيت من الطبقي الوسطى المصرية، والتي سيطرت عليها في ذلك الوقت الثقافة التركية، دور كبير في تشكيل قناعاته. بقاء الدولة العثمانية ضرورة للبشرية يقول مصطفى كامل في كتاب المسألة الشرقية "أن بقاء الدولة العلية ضروري للجنس البشري، وأن في بقاء سلطاتها سلامة أمم الغرب وأمم الشرق، وقد أحس الكثيرون من رجال السياسة و الإعلام أن بقاء الدولة العلية أمر لازم للتوازن العام وأن زوالها لا قدر الله مجلبة للأخطار ومشعلة لنار يمتد لهيبها بالأرض شرقًا وغربًا" وهو القول الذي أثبتت حركة التاريخ بطلانه بعد ذلك، وربما نلتمس العذر فيه لحداثة سن مصطفى كامل حين كتبه في السادسة والعشرين من عمره فجاء حافلا بعلامات المراهقة الفكرية. ثم يقول "وأن هدم هذه المملكة القائمة بأمر الإسلام يكون داعية لثورة عامة بين المسلمين وحرب دموية لا تعد بعدها الحروب الصليبية إلا معارك صبيانية" نلاحظ هنا قوله بأنها قائمة بالأمر الإلهي، وكان من عادة مصطفى كامل في خطبه أن يعزز دور تركيا بأنها دولة الخلافة وأن السلطان هو أمير المؤمنين ومثابة المسلمين. وقد اعترفت الدولة العلية بفضله هذا فحصل في تلك السن المبكرة على رتبة الباشوية خلال زيارة للباب العالي بتركيا. هجومه على عرابي ولطفي السيد وقاسم أمين قل أن يتعرض زعيم وطني للظلم والهجوم والتجريح في وطنه سواء في حياته أو بعد وفاته كما تعرض له الزعيم أحمد عرابي، وقد كان ضمن ما تعرض له الهجوم الذي شنه مصطفى كامل عليه وعلى ثورته في بعض مقالاته المبكرة، والتي فسرها المؤرخ "لمعي المطيعي" في كتابه "أوراق مصطفى كامل" بعلاقة مصطفى كامل الوثيقة بالخديوي عباس حلمي باشا، فقد كان الخديوي يكره العرابية والعرابيين بحكم قرابته للخديوي توفيق، لهذا نجد مصطفى كامل يحمل تبعة الاحتلال البريطاني على عاتق الثائر الشريف الذي حارب المستعمر الأجنبي والطغيان العثماني معا، ولا يحمله على عاتق الخديوي الذي استقوى بالبريطاني على جيشه الوطني وقائده الثائر. أما العلامة ورائد التنوير المصري لطفي السيد فقد جمعه بمصطفى كامل النضال السلمي في الجمعية الوطنية، جمعهما العداء للمحتل البريطاني، ثم اختلفا بعد ذلك نتيجة لولاء مصطفى كامل للباب العالي، بينما كان لطفي السيد وقاسم أمين والشيخ الإمام محمد عبده خالصي الولاء للوطنية المصرية وداعين لاستقلال مصر عن تركيا وإنجلترا معا، حيث سك لطفي السيد عبارته الشهيرة "مصر للمصريين"، وشكلت هذه الرموز حزب الأمة مقابل الحزب الوطني الذي شكله مصطفى كامل، وكتبوا في صحيفة "الجريدة" مقالات للرد على مقالات مصطفى كامل في جريدة اللواء. وفضلا عن المعركة السياسية والخلاف حول التبعية للباب العالي، كانت له مع رائد تحرير المرأة "قاسم أمين" خصومة فكرية حول قضية تحرير المرأة ذاتها، حيث كان مصطفى كامل تقليدي التربية ضد كتابات قاسم أمين في كتبه "المرأة الجديدة" و"تحرير المرأة"، وعلينا هنا أن نوضح خلطا معاصرا حول كتابات قاسم أمين، فالسفور الذي دعا إليه كان كشف وجه المرأة المميز لهويتها، وهو ما لا يخالف شرع الله، وليس العري والمجون كما يفهم البعض حاليا من المصطلح المفترى عليه. وكان هذا السفور رمزا لنزولها لسوق العمل ومشاركة الرجل في خدمة المجتمع. وختاما، نحترم دور مصطفى كامل ضد الاحتلال البريطاني ونجله، لكننا أردنا في مقالنا هذا إلقاء بعض من الضوء على جوانب سلبية في فكرة الوطنية لديه، لأن بعض دعاة الدولة الدينية وإحياء الخلافة اليوم يستخدمون ما لهذا الرمز الوطني من اسم معروف للجماهير للدعوة لأفكارهم وترويجها بأفكار تنتمي لبدايات القرن العشرين، حين لم يكن المصري لطول فترات التبعية يتصور أن تكون مصر للمصريين وأن تكون مستقلة الإرادة عن غيرها، سواء كان هذا الغير من أبناء دينها أو قوميتها أو غير ذلك. وأردنا كذلك أن نبين كون صرعة الخلافة تلك كانت أمرا انفرد به مصطفى كامل عن غيره من رواد النهضة والتحرير في زمانه. Comment *